هارون يحيى
تصدّرت أخبار تركيا اهتمام وسائل الإعلام المحليّة والدوليّة مجددًا، حيث اختُتمت الانتخابات البرلمانية المبكرة الشهيرة يوم الأحد 1 نوفمبر. تُعدّ هذه هي المرة الأولى في التاريخ السياسي التركي التي يتوجّه فيها الناس للمرةِ الثانية إلى صناديق الاقتراع خلال مثل هذه الفترةِ الزمنيّةِ القصيرة. لقد كانت النتائج مفاجئة للجميع؛ حتى بالنسبة للقادة السياسيّين أنفسهم. فقد أصبح حزب العدالة والتنمية هو الحزب الأول في التاريخ السياسي التركي الذي يفوز بالسلطة للمرةِ الرابعة.
لقد أُجريت الكثير من استطلاعات الرأي، كما عُقدت العديد من البرامج التلفزيونية والإذاعية، الراغبة في تشكيل حكومةٍ ائتلافيّةٍ من شأنها حماية البلاد من الاستقطاب. لم يأتِ الإعلام على ذكر حكومةٍ يشكّلها حزبٌ منفردٌ نظرًا لنتائج انتخابات يونيو الماضي وعدم الاستقرار الناتج مؤخرًا في البلاد، باستثناء أعضاء حزب العدالة والتنمية الذين عملوا بجدٍّ خلال الحملات الانتخابية ليتمكنوا من الوصول إلى السلطة من جديد. لقد كانت استطلاعات الرأي خاطئة، وقال الناخبون "نعم" لحكومة الحزب الواحد. لقد فضّل المواطنون الأتراك الاستقرار على حكومةٍ ائتلافيةٍ كانوا شهودًا على عدم قدرة الأحزاب على تشكيلها بعد انتخابات يونيو الماضي. كذلك، يشعر الأتراك بأنّ وجود حزبٍ واحدٍ في السلطة من شأنه أن يجعل الإدارة أسهل، كما يجعلها أقدر على الردّ على الهجمات الإرهابية التي تشهدها تركيا.
لماذا ارتفعت أصوات حزب العدالة والتنمية؟
لقد تمكن حزب العدالة والتنمية من الحصول على 49.34٪ من الأصوات، ما يجعله الحزب الوحيد المؤهّل لتشكيل الحكومة مع 316 عضوًا في البرلمان، وكان السبب الرئيسي لارتفاع أصوات العدالة والتنمية، هو تأييد الجمهور لفكرة أن يكون له دور حاسم وبنّاء في القضاء على الإرهاب في تركيا، وعلى الرغم من أنّ هذا ليس كافيًا للقضاء التامّ على الإرهاب، بيد أنّ المساعي البارزة والبداية القويّة، من شأنهما منح الأمل للشعب التركي الذي عانى من الإرهاب على مدى عقود.
لقد قلّلت عمليّات القوّات المسلحة التركية الأخيرة لمكافحة الإرهاب، قلّلت جزئيًّا من ضغوط وتهديدات المنظمات الإرهابية، لذا فإنّ الأصوات الممنوحة سابقًا للحزب الديمقراطي التركي، قد أُعطيت هذه المرّة إلى حزب العدالة والتنمية.
العامل الآخر الذي أدّى إلى ارتفاع أصوات حزب العدالة والتنمية، هو تخلّيه عن خططه السابقة للتحوّل إلى النّظام الرئاسي في انتخابات يونيو. في الواقع إنّ غالبية الأتراك يعارضون هذا النموذج الجديد، إذ من شأنه إحداثُ نظامٍ فيدراليّ، لذا فإنّه لم يحظ بقبولٍ في البلاد. النظام الرئاسي هو نظامٌ حكوميٌ شائعٌ في العديد من البلدان، بيد أنّه يشكل تهديدًا كبيرًا بالنسبة لتركيا. ذلك أنّ النّظام الفيدرالي الذي يشكله النظام الرئاسي، سيضرّ كثيرًا بالهيكل الوحدوي التركي، وسيتسبب في مطالبة العديد من المناطق الفيدرالية بالاستقلال. من المهمّ جدًا لحزب العدالة والتنمية، ألّا يعود إلى خطاب النظام الرئاسي من جديد، إذ سيضرّ هذا به كثيرًا.
لقد كان لشخصيّة رئيس الوزراء داوود أوغلو وقيَمه الروحيّة السامية، دورٌ هامٌّ في حشد الدّعم وكسب أصوات الجمهور، إنّه رجلٌ صادقٌ ومتديّنٌ ومحبٌّ ومتواضعٌ ومخلص. لقد تغلّبت هذه الصفات على الشعب التركيّ الذي يتكوّن من 99% من المسلمين الّذين يمنحون أهميّة كبيرة لهذه الصفات الرّوحانية.
لقد عمل حزب العدالة والتنمية بجدٍّ أثناء الحملات الانتخابية، لا سيّما إذا ما قارنّاه بحزب الشعب الجمهوري وحزب الحركة القوميّة، حتى أَنّ رئيس الوزراء داوود أوغلو شارك بنفسه في الحملات الانتخابية متنقلًا من مدينةٍ إلى أخرى ومن مقاطعةٍ إلى أخرى، وملقيًا الخطابات العامّة، ومستمعًا إلى مشاكل ومتطلّبات شعبه، كما قام أعضاء حزب العدالة والتنمية بتقييم الانتخابات الأخيرة بدقّة، وحاولوا إصلاح أخطائهم السابقة، بالإضافة إلى ذلك، فقد وضعوا تحذيرات وسائل الإعلام وميول الشعب في عين الاعتبار.
لقد شهِد الاقتصاد التركي في الآونة الأخيرة ركودًا كبيرًا، دون أن يصل إلى مرحلة الكساد الاقتصادي، لذا فقد قدّم حزب العدالة والتنمية وعودًا جديدة حيال الاقتصاد خلال فترة الانتخابات الماضية.
انخفاض عدد الأصوات الراديكالية للأحزاب المعارضة
لقد شهِد حزبا الشعوب الديمقراطي والحركة القومية انخفاضًا كبيرًا في عدد الأصوات، مقارنةً بالانتخابات السابقة. لقد خسر حزب الشعوب الديمقراطي أصواته بسبب تردّده في الإنكار الجليّ للتورّط مع المنظّمات الإرهابية وعدم إدانته الهجمات الإرهابية التي أودت بحياة العديد من الجنود وضباط الشرطة والمدنيّين في الأشهر السابقة.
من المهم أن يكون لحزب الشعوب الديمقراطي تمثيلًا في البرلمان، إذ يسمح هذا بالتمثيل الصحيح ومنح الأصوات للمواطنين الأتراك.
بالنسبة لحزب الحركة القوميّة الذي خسر 39 مقعدًا مقارنةً بانتخابات يونيو، فلن يكون الحزب الحاكم ولكنّه لا يزال الحزب صاحب الأيديولوجيّة والعمل، لذا فإنّ لديه أرضيّةً قويّةً جدًا. ومع ذلك، ونظرًا لأحوال البلد، فقد ذهبت بعض أصواتهم إلى غيرهم من الأحزاب اليمينية. لقد شهدنا وضعًا مشابهًا أثناء حكومة حزب الوطن الأم.
كذلك تأثّر سلبًا إلى حدٍ ما، حزب الشعب الجمهوري وهو حزب المعارضة الرئيسي. لقد فاز بـ 134 مقعدًا في الدورة السادسة والعشرين للبرلمان. وبالرغم من ارتفاع عدد نوّابه، إلا أنّ زعيم الحزب كمال كلتشدار أوغلو لم يعدّ ذلك نجاحًا بالنسبة إليهم. السبب الرئيسي لهذه السلبية هو عدم طرح خطة راسخة، وعدم التركيز على القضايا الحاسمة في تركيا مثل الإرهاب، وتهديد وحدة الهيكل، والانشغال بمسائل ذات أهمية ثانوية.
كيف نرتقي بتركيا
يتعين على الحزب المنتصر تبنّي النصف الآخر الذي لم يصوّت له، إذ سيشعر أنصار الأحزاب المعارضة بالقلق، وعلى رئيس الوزراء أن يستمرّ في منح رسائل الحب لجميع السكّان، وعليه أن يؤكّد باستمرار، أنّ لجميع المواطنين حقوقًا متساوية وأنّهم سوف يعيشون في ظروفٍ متساوية. من المهم منح السلام والأمان للمعارضة. بالحبّ والرّحمة، يمكن استرضاء النّصف الآخر والفوز بقلوبهم والتغلب على توتّرهم. فمن السهل أن تعطي انطباعًا بأنّ أيّ مواطنٍ تركي، هو مواطنٌ من الدرجةِ الأولى. ومن السهل أن يتصالح الناس بالحب وهي النعمة الأكثر إرضاءً في هذا العالم، كما يجب على الحكومة أن تؤمن بأنّ المواطنين من مختلف الأعراق مثل العلويين واليونانيين والأرمن والسوريّين، هم رمز الجمال في هذا البلد، ويجب أن يشعروا بالراحة من العيش في بلدٍ يقدّرهم كثيرًا.