بقلم: هارون يحيى- مفكر إسلامي تركي - خاص بالحدث
استشهد ما يزيد عن ثلاثمئة عامل من إخواننا الأسبوع الفائت، في حادثة اشتعال النيران في منجم فحم سوما الخاص، والذي يعتبر واحداً من مصادر إنتاج الفحم الرئيسية في تaركيا. وقد استخدمت كلمة «استشهد» متعمداً، حيث اعتاد رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وكما ذكر في عدد من الأحاديث، بأن يشير إلى الذين يتوفون في حوادث أو كوارث بـ»الشهداء». فعن أَبي هريرة، رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (( الشُّهَدَاءُ خَمْسَةٌ: المَطْعُونُ وَالمَبْطُونُ، وَالغَرِيقُ، وَصَاحِبُ الهَدْمِ، وَالشَّهِيدُ في سَبِيلِ الله))((2)) متفقٌ عَلَيْهِ. أخرجه: البخاري 1/167 (653)، ومسلم 6/51 (1914) (164(.
وبعد الانتهاء من عملية الإنقاذ من منجم الفحم، علينا العمل الآن على أمرين، الأول يكمن في التأكد من عدم تكرار هذه الحادثة، والثاني في بذل الدولة لجميع الجهود الممكنة، برفقة دعم الشعب، من أجل تعويض عائلات الذين فقدوا أرواحهم في هذه الحادثة. وتقع على الدولة والمجتمع مسؤولية كبيرة وهامة تجاه عائلات الشهداء والمصابين، فعلينا حماية ورعاية عائلات الشهداء، وأن نقدم لهم جميع أنواع الدعم، والتوجه لهم بلغة تعاطف وتفهم، كي لا نؤذي مشاعرهم أو نذكرهم بالألم الذي يعانون منه.
فمن المؤكد أن تتعامل الدولة بهذا الشكل مع عائلات الشهداء، ورعايتهم سيكون لها أثر إيجابي على تقبل وآراء الشعب، فمن الضروري توفير حياة كريمة لإخواننا وأخواتنا، ومن أن نتأكد من عدم شعورهم بأي حالة من النقص أو الحاجة أو المعاناة التي ستؤدي بهم للمزيد من الأسى بعد هذه الحادثة المؤسفة. يجب على الدولة أن تباشر بإرسال شاحنات من الطعام لهذه العائلات، وأن تعمل على التحسين من ظروفهم المعيشية، وأن تتحمل مسؤولية وأعباء علاج المرضى والمصابين منهم، كما يجب عليها بأن تتكفل بجميع مصاريف تعليم الأطفال الذين تيتموا، وأن تعمل على توفير جميع وسائل الراحة لمن بقي على قيد الحياة من عائلات الضحايا. كما يجب على الدولة أن تتكفل بدفع جميع الديون والمستحقات المتراكمة على هذه الأسر، وأن توفر لهم جميع المصادر والموارد الممكنة كي تضمن عدم معاناتهم في يوم من الأيام من أية ضائقة مالية، وينطبق هذا كذلك على عائلات جميع الأسرى والعمال السابقين في المنجم، الذين سيمرون في ظروف صعبة بسبب إغلاق هذا المنجم. سيكون لأي رد فعل كهذا أثر إيجابي هائل على نفوس الشعب التركي ونظرته إلى الحكومة على أنها الراعي لمصالح الشعب.
من الضروري اتخاذ تدابير شاملة تجاه هذه الحادثة
أما بعد ذلك، فمن الضروري اتخاذ تدابير وإجراءات شاملة للتأكد من عدم تكرار أية حادثة مشابهة في المستقبل، فقد أظهرت هذه المأساة، والتي تعتبر أسوأ حادثة صناعية في تاريخ دولة تركيا الحديثة، العيوب الفنية الخطيرة والتقصير في نظام وآليات التفتيش، والتأكد من معايير السلامة في مكان العمل. فقد توقف عدد كبير من الدول الحديثة عن إرسال العمال تحت الأرض، فعلى سبيل المثال، تقوم ألمانيا بإنتاج أضعاف كمية الفحم التي تنتجها تركيا عن طريق استخدام الروبوتات المتطورة والتي يتم التحكم بها عن بعد، بالإضافة إلى آلات عملاقة عوضاً عن إرسال العمال، فلقد توقفوا عن استخدام المعاول والمجاريف لاستخراج الفحم، بل أصبح العمال يعملون على تشغيل هذه الآلات، لقد أصبح من الواضح بأن تركيا ما زالت متأخرة كثيراً عن الدول المتقدمة في مجال استخراج الفحم. أما القطاع الخاص، فيبدو أنه يركز بشكل أساسي على الإنتاجية وتحقيق الأرباح، عوضاً عن اتخاذ الخطوات المناسبة من أجل تطوير ظروف العمل والتأكد من سلامة العمال، هذا بالإضافة إلى عدم تقديم التدريب اللازم للعمال. يضاف إلى هذه العوامل جميعها تقصير السلطات في آليات التفتيش على معايير السلامة، بالإضافة إلى الثغرات في اللوائح والأنظمة أو الفشل في تطبيق القوانين، مما يؤدي بشكل حتمي إلى ازدياد عدد الحوادث الصناعية، بالأخص عند النظر إلى التناقص السريع في عدد الحوادث في الدول المتقدمة الأخرى حيث يصل في عدد منها إلى الصفر.
نقف هنا عند صورة مرعبة ومهمة، حيث يجب إيقاف عمال الفحم في الـ700 منجم من جميع أنحاء تركيا، وليس في منجم سوما فقط، من النزول إلى طبقات الفحم تحت الأرض حتى يتم التعامل ومعالجة جميع المشاكل التي برزت في أعقاب التحقيق الذي تم إجراؤه بعد الحادثة. مجرد السماع بوجود ما يزيد عن الـ50000 عامل فحم في تركيا يعطينا لمحة عن الصورة القاتمة التي نواجها اليوم. يجب القيام بأخذ معايير قانونية صارمة بأسرع وقت ممكن، من أجل منع حدوث أية حالات مماثلة في المستقبل. يجب تحديد المعايير في المشاريع والمؤسسات التي تتم خصخصتها، مع الأخذ بأعلى درجات الحذر والرعاية، كما يجب اتخاذ جميع التدابير اللازمة فيما يتعلق بالرقابة والتفتيش. يجب نشر الوعي بين العمال والمفتشين والنقابيين فيما يتعلق بعملية التنقيب، كما يجب على الدولة أن تفي بالتزاماتها، وأن تتأكد من تطبيق القوانين على أرض الواقع وأن لا تبقى مجرد حبر على ورق.
أما القضية الأخرى التي يجب التركيز عليها هنا، فهي التأكد من العمل على تطوير وتجديد أساليب الإنقاذ لتصل إلى المعايير العالمية، بل وتتخطاها، كما يجب العمل على التنسيق من أجل استحضار الآليات والأشخاص والمساعدات التقنية من الخارج في حالات الضرورة. لا يجب النظر إلى هذه المسألة على أنها مصاريف إضافية، بل على أنها استثمارات ضرورية وأساسية لأمن وأمان الشعب، هذا بالإضافة إلى ضرورة التقدم بعقوبات صارمة تجاه كل من يخالف اللوائح والقوانين، ويضع الناس تحت مخاطر يمكن تجنبها.
أما في حال عدم التصرف بسرعة والقيام بالإجراءات اللازمة، فقد يكون من الصعب تجنب حدوث كوارث مشابهة في المستقبل، وفي حال حدوث الأسوأ، فإن الذين لم يقوموا باتخاذ الإجراءات اللازمة سيكونون عرضة للمساءلة تجاه أي حادث مستقبلي. أما في نهاية الأمر، فإني أدعو الله وأتوسل إليه أن يأخذهم برحمته وأن يجعلهم من الشهداء، كما أتقدم بالتعازي لعائلات هؤلاء الضحايا من إخواننا رحمهم الله.