استيقظ في الصباح الباكر عدد من أساتذة الجامعات والمعاهد في باريس؛ ليجد كل منهم كتابا فاخر الطباعة في صندوقه البريدي، وهو نسخة من موسوعة أطلس الخلق "Atlas of Creation"، مهداة من مؤلفها التركي عدنان أوكطار المعروف بـ "هارون يحيى".
أخذ الكتاب في الانتشار في فبراير ومارس 2007، ولم يقتصر توزيعه على الجالية المسلمة في فرنسا بل شمل غير المسلمين؛ الأمر الذي أشعل معه فتيل أزمة ما زالت تتوالى توابعها إلى الآن، حتى إن الصحف الأوروبية وصفتها بـ"الهجمة المبهرة على نظرية التطور".
وبعد أن تلقت وزارة التعليم الفرنسية مئات الاستفسارات حول الكتاب ذي الصبغة الإسلامية، تم تسليمها لمتخصصين وبدأ التحقيق؛ إذ ساد اعتقاد بارتباط نشره بوجود أكبر جالية مسلمة في أوروبا على أرض فرنسا، الظن الذي تبدد بعد التأكد من عشوائية التوزيع، حيث شمل مختلف مناطق البلاد، بغض النظر عن التقسيم الديني للسكان.
ذاع صيت الموسوعة التي حوى الجزء الأول منها هجومًا علميا على فرضية النشوء والارتقاء "الدارونية"، والتي تقوم عليها المناهج التعليمية في العديد من دول العالم، باعتبارها حقيقة علمية مسلمًا بها، جاء هذا في أكثر من 750 صفحة من أصل 5600 صفحة ستصدر في سبعة أجزاء.
وبينما وصفت مجلة (New Scientist) الأمريكية الكاتب بـ "البطل الدولي" لجهوده الضخمة في تفنيد مزاعم التطور، اجتاح الزلزال الفكري للكتاب الأكاديميات العلمية الفرنسية؛ فأثار حفيظة أعداء حقيقة الخلق من ماديين ودارونيين، وعمدوا إلى الضغط على الحكومة لحظر الكتاب. وبالفعل صدر بيان يحظر تداول كتاب "أطلس الخلق"، ويؤكد أنه "لا مكان له في المدارس الفرنسية".
عودة البطل العالمي
وفي خطوة مفاجئة من جانبه أعلن عدنان أوكطار موافقته على طلب الإعلاميين الفرنسيين مقابلته في أول ظهور علني له في السنوات التسع الأخيرة. وفي أثناء المؤتمر الصحفي الذي عقد على ظهر يخت فاخر على سطح مياه خليج البوسفور بإستانبول؛ ركز الإعلاميون أسئلتهم لمعرفة الهدف من نشر الكتاب بهذه الطريقة غير المعهودة، وعن المصدر، إلى جانب أسئلة حول موقف الكاتب من العلمانية كفكر ونظام؛ وهو ما أوحى بأن الصحفيين لم يكن هدفهم الأول محتوى الكتاب بقدر ما كان المؤلف ذاته هو محور الاستطلاع "استخباراتي الطابع".
ومن جانبه جاءت إجابات أوكطار -الذي ظهرت عليه الأناقة والهدوء الشديد- منتقاة بعناية فائقة؛ فقد أقر بأنه يهدف في الأساس لنشر رسالته عالميا، عبر الإنترنت وطباعة كتبه المترجمة إلى أكثر من 30 لغة ونشرها دوليا، وذلك بعد أن قُضي على الدارونية في تركيا، على حد قوله.
ولم يعط أي تفاصيل عن مصادر تمويل منظمته، مرجعا هذه الأمور إلى ناشره، ومستعجبا "من الاهتمام بمصدر التمويل بدلا من استيعاب مضمون الأعمال التي ينتجها". لكنه نفى تماما تلقيه أي دعم من الحزب التركي الحاكم ذي التوجهات الإسلامية.
وفي تعليق ساخر منه على ادعاءات أنصار فرضية داروين دعا أوكطار إلى عقد مؤتمر صحفي تحت سفح برج إيفل، وأن يحضر دعاة التطور الحفريات التي يدعون امتلاكها كدليل على حدوث مراحل تطور بيولوجي للحياة على الأرض.
أما عن رد أوكطار على سؤال حول موقفه من العلمانية فيقول: "نعم، أنا علماني طالما أن العلمانية تطبق بحذافيرها؛ لأن ذلك يكفل حرية نشر الأفكار والمعتقدات".
بينما رفض تماما أن يكون من أهدافه استبدال مناهج التعليم القائمة على فرضية التطور بمناهج تتفق مع ما تقره الديانات السماوية، موضحا في لهجة غلب عليها الثقة أمله في أن تدرس جميع الأفكار والفلسفات جنبا إلى جنب، وتترك حرية الاختيار للناس الذين سيميلون إلى الحق حتما، مشددا على أن الكتب المرسلة إلى فرنسا لم تستهدف الطلبة بل الأكاديميين.
بينما يمكن لأي طالب أن يحصل على الكتاب مجانا من موقعه على الإنترنت "في مدة أقل من عشرين ثانية"، بحسب قوله.
وفي محاولة منه للتقليل من شأن الإجراءات التي اتخذت ضد كتابه الأخير أكد أوكطار أن عدد زوار موقعه من فرنسا في ازدياد مطرد منذ أن أثيرت الأزمة.
وفي ختام المؤتمر الصحفي أكد أوكطار أن أعماله لا تخدم الإسلام فقط ولكنها تخدم الإيمان بشكل عام، مستدلا على ذلك بتغير موقف بابا الفاتيكان الحالي من الدارونية بعد أن تسلم مجموعة من أعماله، وأشار إلى أن منظمته تتلقى آلافا من خطابات الشكر والتقدير من مختلف أنحاء العالم بما فيها فرنسا ذاتها، مداعبا ضيوفه بأن من ضمن المرسلين شخصيات ذات ثقل، مثل دومينيك دوفيليبان رئيس الوزراء الفرنسي السابق.
الغائب الحاضر
ولد عدنان أوكطار في أنقرة عام 1956، ويعد من رجال الفكر البارزين في تركيا الذين يولون أهمية كبيرة للقيم والمبادئ الأخلاقية التي جاء بها الإسلام، ويؤمن بأن تبليغ تلك القيم المقدسة إلى الناس رسالة إنسانية.
يكتب عدنان أوكطار تحت الاسم المستعار هارون يحيى، في إشارة إلى النبيين هارون ويحيى -عليهما السلام- اللذين ناضلا ضد الإلحاد والكفر بالله سبحانه وتعالى.
بدأ أوكطار صراعه الفكري منذ ذهابه للدراسة بجامعة معمار سنان بإستانبول في عام 1979، حيث لم يرقه انتشار الأفكار والإيديولوجيات المادية وسيطرتها على المحيط الاجتماعي آنذاك؛ وهو ما دفعه للقيام بالبحث والدراسة المفصلة في هذه الفلسفات، لينكشف له زيفها وقيامها على أسس ومعتقدات باطلة.
ومنذ ذلك الحين بدأ في إعداد العديد من الكتب والمؤلفات التي تنقض هذه الفلسفات واحدة تلو الأخرى، مدعما كتاباته بأدلة وبراهين علمية في ضوء هداية القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة.
بدأت أعمال هارون يحيى في جذب الانتباه إليها لما لاقته من استحسان الطبقة المتعلمة من الأتراك؛ الأمر الذي أزعج كبراء المجتمع التركي؛ للتهديد غير المباشر الذي تشكله كتبه على الفكر العلماني بتركيا، فتعالت الأصوات المطالبة بحجب أفكاره عن الساحة؛ وهو ما عرضه للعديد من الأزمات والمؤامرات.
فأُرسل تارة إلى أحد مستشفيات المختلين عقليا، ليودع عنبر الحالات الخطرة أملا في أن يلقى مصرعه، وتارة أخرى تم تلفيق تهمة تعاطي مخدر الكوكايين إليه للتشهير به وفض التفاف الناس حول أعماله، وبعد تبرئته أيضا هذه المرة قرر عدنان اعتزال الحياة العامة تماما في 1991 من أجل التفرغ الكامل لأبحاثه ومؤلفاته.
وعلى الرغم من ا
ختفائه بقي أثر إصداراته المتوالية البالغة 200، معتمدا على نشاط أعضاء منظمته العلمية في إقامة المؤتمرات وإلقاء المحاضرات في شتى أنحاء العالم، وذلك لعرض أفكاره التي تدحض الدارونية والفلسفات القائمة على أساسها.
ولكن كيد المتضررين من جهوده ظل يلاحقه؛ وهو ما أدى لاعتقاله في عام 1999 ومعه عدد كبير من العاملين بمؤسسة الأبحاث العلمية (SRF) التي يرأسها شرفيا بتهمة ارتكاب أفعال إجرامية وممارسات لا أخلاقية ليعود بعد البراءة إلى الظل مرة أخرى وحتى الأسبوع الأخير من مايو 2007.
حفريات وحقائق
وبعد خروجه لم يمكث العالم الكبير في الظل كثيرا؛ فخرج وسط زوبعة ضخمة أحدثها الجزء الأول من "موسوعة أطلس الخلق".
ويضم الكتاب مقدمة للتعريف بعلم الحفريات، يليها خمسة فصول تصنف صور مئات المتحجرات مليونية العمر تبعا لمنطقة اكتشافها، ويقارن الكاتب في تحليل علمي بين تلك الحفريات ومثيلاتها من الكائنات والنباتات التي ما زالت تعيش على أرضنا إلى اليوم، غارسا لدى القارئ حقيقة أن الكائنات الحية على أرضنا لم تمر بمراحل تطور وسيطة كما تزعم الدعاية المسلطة على الدارونية، مؤكدا أن الخليقة وجدت على نسقها الحالي منذ قديم الأزل.
ثم يُختم الكتاب بملحق كبير تحت عنوان "الجذور الإيديولوجية الحقيقية للإرهاب"، حيث يعالج الكاتب هذه المرة فرضية التطور والارتقاء من زاوية إيديولوجية فلسفية بعد أن فندها علميا في الفصول السابقة، وفي توجه غير معهود يصل أوكطار في تحليله إلى أن جذور الإرهاب الذي يعاني منه عالمنا تعود إلى الدارونية وأصولها التاريخية التي أوجدت فكرة البقاء للأقوى.
ثم يربط بينها وبين شرور الفاشية والنازية والشيوعية والماسونية التي صبغت القرن المنصرم باللون الأحمر القاني كنتيجة لتحول الإنسان في نظر أتباعها من مخلوق مكرم إلى كائن اعتباطي الوجود همه الأول هو البقاء وإبادة الكائنات الأخرى المحيطة به كما تقول فرضية تشارلز داروين، وفي نفس السياق ينفي الكاتب تماما تهمة العنف والإرهاب التي يحاول أنصار المادة إلصاقها بالأديان، في محاولة منهم لتقديم إيديولوجياتهم المادية الجافة كبديل وحل للوصول إلى السلام العالمي المفقود.