هارون يحيى
المصالح الوطنية للدولة، هذه الكلمات دائمًا ما يستخدمها القادة والرؤساء لتفسير خلافاتهم مع الدول الأخرى لشعوبهم. في المحافل الدولية، حيث تناقش الدول ما يمكن أن تحتاجه لخدمة مصالحها، هذه اللقاءات دائمًا ما تكون بلا نتائج مثمرة لأن كلا الطرفين لا يهتمان سوى لخدمة مصالحهما فقط دون مراعاة لأي شيء آخر.
مشكلة قبرص التي استمرت طيلة الخمسين عامًا الماضية هي مثال واضح جدًا لهذا الأمر، ففي خضم كل الحسابات التي تتعلق بالسكان والأرض والمياه والموارد، ما زالت الأزمة تزيد يومًا بعد يوم، في حين تبدو دعوات "الوحدة" أو "العيش معًا" لا تقوم إلا على حسابات الأرض فقط.
مفهوم المصلحة الوطنية ظل يدرس طيلة سنوات كأكثر الأسلحة فاعلية في السياسة الواقعية هو في حقيقة الأمر تطبيق لسياسات مادية وأنانية التفكير ربما هذا النوع من التفكير لا يقود المجتمعات سوى للانهيار. وفقًا لهذه الفرضية، واستنادًا إلى أطروحة أن البقاء للأقوى في الطبيعة فإنه يجب على الدول أن تحمي مصالحها الخاصة وأن تقاتل من أجلها حتى النهاية، ومع استمرار الخلافات بين الدول، تواصل المجتمعات التفكك جزئيًا، ثم مع اندلاع الحروب، تستمر الحضارات الأقوى في حين تختفي نظيرتها الأضعف تمامًا.
من المؤكد أن كل المخلوقات تقاتل من أجل الاستمرار، ولكنهم بالتأكيد لا يترددون في المخاطرة بحياتهم لحماية من يحبون، ربما لا تفعل الحيوانات هذا الأمر، لذا فإن قتالها من أجل الحياة يمكن أن نمثله بقتال الماديين من أجلها، هم لا يبالون سوى باستمرار حياتهم. نحن كبشر يفترض ألا نكون كالحيوانات التي تدمر أي شيء للحفاظ على حياتها، البشر خلقوا من أجل أن يحبوا بعضهم وهم محاسبون على ذلك.
بنيت طبيعة البشر على الحب والتضحية والأخوة والسلام، لذا ليس أمرًا مفاجئًا أن تجد أن الناس لن يكونوا سعداء بعالم يمتلئ بالقتل، أو بعالم يضطرون فيه لبناء أسوار عالية حول منازلهم لحمايتهم أو بحدود بين الدول وبعضها البعض. السياسات القومية تتعارض بالأساس مع الطبيعة الإنسانية.
هذا هو مكمن الخطأ بالتحديد، قيام الأنظمة بطريقة تعتمد على الأنانية والمصلحة الذاتية فقط تحت شعار "المصلحة القومية" قد ساد العالم. هذه الظاهرة التي تتعارض مع السبب الذي خلق لأجله الإنسان بالأساس سترفضها الطبيعة البشرية دائمًا. الأنانية لا تولد سوى الكراهية، الوفود الرسمية تذهب إلى هنا وهناك والاجتماعات تعقد ويصدر عنها بيانات رسمية، ولكن المشاكل لا تحل أبدًا، لأن الجميع يفكر بأنانية، الجميع يقول "أنا من أتيت أولًا".
بالعودة إلى المشكلة القبرصية، التي تتأصل أسبابها فيما ذكرناه سلفًا، إلا أن الأيام المقبلة لن تكون واعدة بالنسبة لقبرص، فقد تجاهلت المحادثات الأخيرة بين البلدين أسس المحبة والأخوة التي يحتاجها الشعبين أكثر من أي شيء آخر. إذا كان يتوجب على السكان العيش معًا على جزيرة واحدة، فبالتأكيد يجب أن تكون المحبة أساسًا لهذا التعايش بدلًا من التصريحات السياسية الجامدة التي لا تتحدث سوى عن توزيع الأرض أو عن الحقوق الإدارية، يعيش الناس على هذه الجزيرة كإخوة كما عاشوا بهذه الطريقة منذ مئات السنين وهو ما سيستمرون عليه في المستقبل. دائمًا ما كانت عادة هذا الشعب هي التنافس من أجل تقديم التضحية، هذه هي طريقتهم، إنهم يكرهون الجدل حول "هل هي ملكي أم ملكك"، إنهم يكرهون المادية بطبيعتهم ويكرهون سياسة الأنانية التي يتبناها السياسيون.
بدون الحب، ينتهي هذا العالم، وتنهار أنظمته السياسية والاقتصادية، إنه ليس دربًا من دروب الرفاهية ولكنه شريان الحياة الذي نعيش به جميعًا.
لكل هذه الأسباب السابقة، يمكننا القول بأنه إذا أردنا الوصول لحل للمشكلة القبرصية، فيجب أن يبنى على الأخوة بين الشعبين. إذا كان لديك ضيف في منزلك فلن تطرده بالتأكيد، لذا يمكننا القول بأن الشعب الذي عاش على هذه الأرض لمئات السنين لا يمكننا أبدًا أن نطرده أو أن يوصف بالمحتل. هل فكر أحد السياسيين في هذه الأزمة بهذا المنطق من قبل لتستمر الحياة بكثير من الحب والأخوة؟
لا بد من أن تكون السياسات قائمة بالفعل على المحبة غير المشروطة بدلًا من سياسة التفكير في الذات فقط تحت عنوان المصلحة الوطنية. يمكننا أن نرى كيف أضر الفكر المادي البحت والأناني الذي يؤمن به أغلب السياسيين قد أضر بالشعوب والدول. ربما يعتبر البعض هذا الحب الذي نتحدث عنه بأنه أمر وهمي لا يصلح سوى في المدينة الفاضلة، ولكنه في الحقيقة الحل لكل المشكلات.