لا للتّضحية بروابط الأخوّة على مذبح السّياسة
ucgen

لا للتّضحية بروابط الأخوّة على مذبح السّياسة

1721

بقلم: الكاتب التركي هارون يحيى

تقوم السّياسة البراغماتية على إستراتيجية تحقيق أكبر قدر من المصالح والمنافع. وفي السياسة العالمية، تسعى كلّ دولة إلى ربط العلاقات مع الدّول الأخرى لتحقيق مكاسب مادية مثل الوُصول إلى الموارد الطبيعية، وطرق التّجارة أو التّحالف العسكري الاستراتيجي. ويُنظر عادةً إلى هذه العلاقات على أنها ضعيفة وهشة, إذ أنّه في حالة تغيّر أحد الشريكين لأي سبب من الأسباب، فإمّا أن يُدير الطرف الآخر ظهره له أو يسعى إلى استغلال الوضع لصالحه.

في حين أنّ جميع الأديان الإلهية تؤكّد على ضرورة تحقيق السّلام مع الآخرين، وتدعو إلى أن يحبّ الجار جاره، فهذا المنهج يقوم على أسس مختلفة تمامًا، ويُضيف أبعادًا جديدة إلى العلاقات بين الدّول أو الأفراد، وفيه تختفي الحسابات السّياسية وتغيب المناورات، وهذا الأساس الجديد هو الأخوة.

وفي الحقيقة فإن المناورات السّياسية التي تتلوّن مع الأوضاع والظّروف لا تسفر سوى عن تحقيق نجاح مؤقّت وظرفي. وكنتيجة لذلك، يعيش عدد قليل من النّاس في سعادة بينما تظل الأغلبية تعاني التعاسة والمرارة. المناورات السّياسية يمكن أن تنقذ الوضع ليوم أو بعض الأيّام، لكنها تبقى عاجزة عن الحيلولة دون وقوع الكوارث التي تتهدد المستقبل. أمّا الأخوّة فهي تتطلّب منك الوقوف إلى جانب أخيك في السّراء والضرّاء.

من هذا المنطلق، انشغلت تركيا انشغالا بالغا بما يحدث في مصر، وقالت فيه كلاما كثيرًا. فالشّعب التّركي لا يريد أن يرى الجيش يخوض غمار السّياسة لأنه اكتوى بناره طيلة أعوام. والأتراك ينظرون إلى مصر على أنّها بلادُهم، وقد هالَهم ما حدث في مصر، فمصر بمثابة الأخت منذ العهود العثمانية، هي عبارة عن قطعة منّا.

بعض الأطراف في مصر لم يعجبها التّدخل التركي في الشّؤون المصريّة، وقيل إنّ مصر بوسعها حل مشاكلها بنفسها. لقد كان ذلك ممكنا بدون شكّ، لكن للأسف الشديد لم يحصل هذا، ومصر في الوقت الحاضر تعيش أحداثا كنّا عشناها في مرحلة ما من تاريخنا. وهذا البلد في حاجة إلى صديق، إلى أخ لكي يتدخل ويقوم بوساطة. ومصر سوف ترى دولا كثيرة تتقرب منها وتتزلف إليها من أجل تحقيق مصالح سياسيّة، لكن تركيا بالنّسبة إلى مصر هي شقيقة قبل أيّ شيء آخر.

بعض التّصريحات التّركية الحادة أغضبت السلطات المصرية، وتمّ طرد السفير التّركي من البلاد، وهذا الأمر أثار الاهتمام في كل أنحاء العالم، هذه الأحداث ما كان ينبغي أن تحصل بين بلدين ظلاّ أخوين منذ القديم، ما كان ينبغي على الإطلاق أن يحدث هذا. لكن المؤكّد أنّ هذه الأزمات سوف تنتهي، وما يتعين عمله هو عدم تضييع مزيد من الوقت، وتركيز الجهود على معاجلة الموضوع بسرعة.

على تركيا أن تتحلى بمزية السّعي إلى تحقيق السّلام، هذه الصفة التي تميّز الثّقافة السائدة في جميع مناطق الشرق الأوسط. ونسبة 100 % من أبناء الشعب المصري هم في حاجة إلى ذلك، وليس 50% من الشعب المصري فقط. وكنتيجة ذلك، على تركيا أن تنتهج سياسة توفر الأمن والسعادة لجميع أبناء الشعب المصري، وأن لا تكون منحازة لطرف على حساب طرف آخر، عليها أن تقوم بدور المصالحة والتقريب بين الأطراف المختلفة.

ومن أجل النجاح في هذه المهمة، ينبغي فهم ما يريده كل طرف في مصر، فمثلما نريد أن يكون أنصار مرسي طرفا في العملية الديمقراطية لابد كذلك من تفهم المخاوف الحقيقية التي تنتابُ معارضي مرسي من الراديكالية الإسلامية، فالمخاوف من الراديكاليّة شيء لا يساعد على بناء الثقة. والسبب الرّئيس في فشل الشّعب المصري في تجربته الديمقراطية التي استمرّت لمدة عام واحد هي هذه المخاوف. لقد جربت حكومة مرسي مجموعة من الإصلاحات، بينما المطلوب هو تغيير جذري. لقد سعد المصريون بــ"الحرية"، هذه الحرّية التي تشكل العنصر الأساس في الدّين الإسلامي، وهذه الحرية للأسف يتم عرقلتها دوما بالأوهام والمخاوف المبالغ فيها. فهناك فريق أراد تحوّلا على هذا الأساس القائم على الحرية، بينما ظلت ذهنيّة فريق آخر مرتبطة بالماضي خاضعة لتأثيراته. وذلك الفريق لم يتقبّل هذه الذهنيّة، وكذلك الشعب المصري مازال متوجسا منها.

هذا التهديد ينبغي أن لا يكون الخلاص منه بواسطة المنع أو الضّغط. الواقع يُثبت أنّ المنع وممارسة الضغط لا يقودان إلاّ إلى مزيد من تعاظم الغضب؛ هذا ليس حلاّ، إنّه يقود إلى الحقد والكراهية. والسّبيل الوحيد للوصول إلى حلول هو "التّعليم".

جماعة الإخوان المسلمين جماعة كبيرة و متجذّرة داخل أوساط الشعب المصري، والعمل على إقصاء هذه الحركة الكبيرة يعني إرسال نصف الشّعب المصري إلى أتون اليأس، ومعنى هذا أن مصر لن تخرج من عنق الزجاجة وستبقى تتخبط في جحيم الصّراع.

لهذا السبب، لابد من انتهاج سياسة تعليمية سليمة، ولهذا السبب كذلك لابد من الاستعانة بدولة شقيقة لديها تجربة في موضوع الديمقراطية، وكذلك في موضوع التعايش المشترك ضمن مفاهيم الإسلام التي تنسجم مع العصر ومع الحرية.

تركيا نجحت في أن تبرهن أن الإسلام دين الحرية والديمقراطية؛ دين يحثّ على طلب العلوم والتقنيات، ويحث كذلك على الاهتمام بالفنون وكل ما هو جميل. دين يُعلي من شأن المرأة، وينزلها المنزلة التي تستحقها في المجتمع. برهنت تركيا على أن الحل الحقيقي في الإسلام ليس الصّراع إنما هو قطعا ودائما السّلام.

على تركيا أن تشرع على الفور في التقريب بين وجهات النظر عند الطرفين وإيجاد مصالحة بينهما. وتركيا بدون شك، ليست دولة مثالية؛ لكن دورها التاريخي يؤهلها للقيام بهذه المهمّة. وعلى مصر أن تنظر إلى تركيا على أنّها البلد الشقيق، وهذا ليس بمنطق السياسة البراغماتية، إنّما باعتبارها جزءًا من مصر.

السفير التركي اضطر لمغادرة مصر بسبب حملة سياسية، والحقيقة أن العلاقات الأخوية لا تفسد بسبب مثل هذه الحملات، ومثلما مرت سابقا بالبلدين عواصف وأزمات ثم تمّ تجاوزها، فسوف نتجاوز هذه الأزمة بسلام، لكن من الضروري المسارعة إلى رأب الصّدع، لذلك على تركيا أن تتحرك بشكل مناسب وبسرعة لاحتضان جميع أبناء الشّعب المصري.


 

يشارك
logo
logo
logo
logo
logo