لا تتوقف الصراعات في العالم الإسلامي، ولا يتوقف التحريض للإيقاع بين الإخوة والأشقاء، هذه المشاكل التي استمرت لسنوات لا يبدو أنها ستجد حلا مناسبا لها في الأفق القريب.
إنّ الدّول الغربية تتجاهل هذه الصراعات وهذه الاضطرابات التي تعصف بالكثير من المجتمعات الإسلامية، وكأنها لا تعنيها في شيء. والغريب أنّنا نرى المؤسسات الإعلامية الكُبرى تجعل من موت الدّلافين أو الحيتان على الشواطئ خبرا رئيسياّ في نشرات الأخبار فيرسلون حشود الصّحفيين لتغطية ذلك الخبر، بينما يعتبرون ما يحدث في العالم الإسلامي من قتل وتدمير أخبارًا ثانوية لا تستحقّ أن تكون ضمن الأخبار الرئيسية.
في هذه الأيّام يشهد العراق مثل هذه الحالة، فعلى الرّغم من أنّ الاحتلال الأمريكي قد انتهى إلاّ أنّ أجواء القتل المحموم لا تزال تعصب بهذا البلد؛ أعمال إرهاب شبه يوميّة بواسطة مركبات محمّلة بالقنابل وانتحارّيين يفجّرون أنفسهم بين حشود كبيرة من النّاس وارتكاب المذابح الجماعيّة، وأشلاء لأجسام تتناثر ذات اليمين وذات الشّمال، وأنهار من دماء الأشقّاء حولت البلاد ساحةً للقتل والخراب. وبالرغم من كل ذلك، فهذه الوحشية لم تثر ضمير العالم ولم تُدرج ضمن جدول أعمال الدّول الكبرى لمناقشتها والبحث عن حلول عاجلة لها. واليوم يواجه العراق ما يشبه الغزو من قبل المنظمة المتطرفة التي تسمي نفسها "تنظيم الدّولة الإسلامية في العراق والشام"، هذه المنظمة التي جلبت للعراق كوارث لا نهاية لها على ما يبدو.
ووفقا لإحصائيات الأمم المتحدة فإنّ عدد الأشخاص الذين لقوا حتفهم نتيجة أعمال العنف في عام 2013 وحده يقرب من 7000 شخص، وخلال الفترة الماضية انضاف لهذا العدد 1000 ضحية جديدة من الأبرياء بسبب ممارسات تنظيم "الدّولة الإسلامية".
وإذا رجعنا إلى ضحايا الاحتلال الأمريكي للعراق ما بين عامي 2003 و 2011م فلا توجد إحصائيات دقيقة في هذا الخصوص، ووفقا للأرقام الصّادرة عن جهات حكومية في العراق والمذكورة في تقرير لـ "بي بي سي" فقد وصل عدد القتلى 461،000 شخصا، وفي تقرير لصحيفة الغارديان البريطانية بلغ عدد الضحايا نحو 1.2 مليون شخص. وكان من المتوقّع أن تهدأ الأمور بعد الانسحاب الأمريكي من العراق لكن أعمال العنف وإزهاق الأرواح ما زالت مستمرة بالوتيرة نفسها.
في تقرير بعنوان "كيف نسيَ العالمُ العِراق"، بقلم باتريك كوكبيرن في صحيفة الأندبندنت وصف كيف أنّ العراق الذي يعاني من أزمات اقتصادية واجتماعية عميقة، أصبح يمضي إلى التقسيم على نحو متزايد. وقال كوكبيرن إنّه مهما كانت أهداف الولايات المتحدة والمملكة المتحدة من غزوهما للعراق فقد كانت النّتيجة كارثية، واليوم يمكن رؤية جميع هذه النتائج بشكل واضح جدّا. وقد وفرت الأزمات الطائفية والاقتصادية والاجتماعية في البلاد مرتعًا خصبًا للمنظّمات المتطرّفة.
وعند النظر إلى العنف والمجازر التي تُرتكب في العراق، ليس فقط خلال السّنوات العشرة الماضية وإنما كذلك قبل زمن صدّام حسين وأثناءه، نجد أنّ التقديرات تشير إلى أنّ 40 عاما من الحرب والقتال بين الأشقاء خلّفت ما لا يقل عن مليون امرأة أرملة. وفي ظل غياب شبكة أمان فإنّ أقل ما يُقال عن أوضاع هؤلاء النّساء إنها غير مستقرة وقاسية، وباختصار لقد أصبح العراق مُدمّر ذاتيّا.
العراق انتقل إلى المركز الثاني ضمن الدّول المصدرة للبترول، لكن في الوقت الذي كان من الممكن، ولو نسبيّا رؤية علامات التّطور الاقتصادي في شوارع بغداد استمر العنف في القضاء بسرعة على كل إمكانيات الازدهار والتقدّم.
لقد تمكن تنظيم "الدولة الإسلامية " من الاستيلاء على مصفاة بيجي، وهي مصفاة النّفط الرئيسية في العراق، الشيء الذي أدّى إلى مزيد من تفاقم المشاكل الاقتصادية في العراق. ولحسن الحظ استطاع الجيش العراقي، وبدعم الضّربات الجوية الأمريكية وتحالف القوى الكردستانية استرداد سدّ الموصل من أيدي قوات تنظيم الدّولة الإسلامية، ومع ذلك, فقد أظهرت هذه الحادثة أنّ تنظيم الدّولة الإسلامية قادر على الاستيلاء على الأماكن والمنشات ذات الأهمية الإستراتيجية. وعلى الرّغم من أنّ العراق لديه ما يكفي من الأراضي والفرص الاقتصادية لجميع سكان العراق، بغضّ النظر عن توجهاتهم الفكرية والسياسية إلا إن العنف النّابع من الاختلاف في الرأي والجهل حوّل البلاد إلى بحر من الدّماء والدّموع.
فهل كان الأمر يستحق كلّ هذه المعاناة، وهل تحسنت الأوضاع بسبب الحروب؟ كلاّ، إنّ الحروب والنزاعات لم تساهم أبدًا في إرساء الأمن والاستقرار في أي مكان من العالم، فكيف يمكن أن يكون الوضع على خلاف ذلك في العراق؟ وخصوصا الآن، حيث يواجه العراق تهديدا حقيقيا بتقسيمه إلى ثلاثة أجزاء. مع مثل هذه العقلية لا يمكن تحقيق أيّ شكل من أشكال التّقدم، ومن الضّروري للمسلمين من ذوي التفكير النيّر أن يتّخذوا الخطوات اللازمة في هذا الصدد على وجه السرعة بإصدار بيانات تدعو إلى التّهدئة، وذلك للمساعدة في تغيير عقلية الجماعات المتطرفة. فلماذا ينبغي أن يكون الخلاف في وجهات النظر والآراء سببا للقتال والكراهية والحقد؟!! ليس هناك أيّ داع لذلك على الإطلاق.
إن الصّراع لا يقود إلاّ إلى صراع مثله وإلى مزيد تفاقمه،والعُنف لا يولّد إلاّ مزيدًا من العنف وإزهاق المزيد من الأرواح، وتعميق الكراهية والأحقاد. يجب ألاّ ننسى أن هذا النّهج العدواني هو دائما طريق مسدود. وعندما يُقتل النّاس ينتقل الغضب من جيل إلى آخر، و تهيمن البغضاء والكراهية على المنطقة، وهذا يسبب أضرارا جسيمة للدّول الإسلامية والمسلمين عموما.
العراق لن يتمكن أبدًا من تحقيق السّلام والهدوء في مثل هذا المناخ، ولن يحصل ذلك حتى بعد 100 عام إذا تواصل الصّراع والقتل، وسوف يكون الشّرق الأوسط بأكمله في حالة شلل إذا تواصل الوضع على ما هو عليه في العراق. وذلك، يجب أن يكون الهدف المشترك للجميع هو العيش في سلام وهدوء وسعادة في بلدانهم جنبا إلى جنب، ويتمتعون بالموارد الطبيعية في بلدانهم التي هي ثروات مشتركة للجميع، وليس هناك سبب أو داع للاقتتال.
من السّهل التّعامل مع المسائل بالحبّ والتفاهم والتسامح بدل الاقتتال والصراع. والتّعليم هو الأداة الفعالة لوضع حد للعنف والعداء الطّائفي الذي تسببه الجماعات المتطرفة مثل تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام. والقرآن الكريم يعلّمنا أنّ الإسلام هو دين السلام والمحبة والأخوة، وهو ليس دين خوف ورعب وحرب. وعندما يتم تبنّي هذه القيم بشكل صحيح، فلن يكون أي فرد مضطرّا لدفع مثل هذه الأثمان الباهظة من المعاناة. لماذا يصر بعض النّاس على اعتماد نهج ينتهي بهم إلى المعاناة والقهر، بينما هناك طريق آخر أفضل وأسلم؟ إن طريق العقل والمنطق والضمير الحي هو أقصر الطرق من أجل النهوض بالأمة.
في هذه الفترة على وجه الخصوص، يجب على المسلمين أن ينشروا دعوات الاعتدال والتأكيد على أنهم يريدون التّسامح والتفاهم وليس الحرب. وإذا لم نتمكن من التعاون للوصول إلى حلّ فإن المشكلة سوف تستمر وتتفاقم. ولهذا يتعين أن يكون هناك تعديل جذري في هياكل منظمة التعاون الإسلامي لتتحوّل إلى اتحاد على شاكلة الاتحاد الأوروبي. وعندما يخرج هذا الاتحاد إلى النّور سوف تحل جميع مشاكل المسلمين في سورية والعراق بصورة أسلم وأسرع.