بقلم: هارون يحييى
تونس بلد تبلغ مساحته نحو 164,000 كيلو متر مربع، ويقطنه 11 مليون نسمة, وقد أطلقت الشّرارة الأولى للعمليّة الدّيمقراطية في الدّول العربيّة. وقد سارت الجماهير المصرية على طريق الثوار التّونسيين، فانطلقت تحركات حماسية، وتدفقت أمواج الغاضبين إلى شوارع القاهرة وهبّت رياح التّغيير بوتيرة سريعة، لكن سرعان ما انقضّ العسكر بأنيابه على الثورة المصرية فأجهز عليها . ولم يكن الوضع مختلفا في ليبيا أيضا. فقد تلقّت ليبيا دعما كبيرًا من الولايات المتحدة الأمركية بهدف إسقاط رأس النظام هناكـ, ثم ما لبث أن تحول الوضع هناك إلى ما يشبه الحرب الأهلية بدل أن تواصل البلاد السّير في طريق التغيير الديمقراطي.
في كلا البلدين أُجهضت عملية التحوّل الدّيمقراطي؛ انقلاب عسكري في مصر واستبدال نظام استبدادي بآخر أكثر استبدادا، وفوضى للسّلاح في ليبيا وتهديد لكيان الدولة هناك. وفي الوقت نفسه كان اليمن يعاني من صراعات عنيفة وتمزق شديد في بنيته الاجتماعية. وفي سوريا لا يزال النّضال شرسًا في مواجهة نظام استبداديّ دمويّ لكي ينال الشّعب السوري حرّيته.
لكن يبدو أنّ تونس هي الدّولة العربية الوحيدة التي نجحت في ما سُمي بموجة الرّبيع العربي. بالتّأكيد كانت لجهود الشّيخ راشد الغنوشي من أجل تحقيق أكبر قدر من التوافق والمصالحة مع جميع الأطراف، والنّأي عن اتخاذ أيّة خطوات من شأنها إثارة مخاوف الغرب، وتلبية مطالب الأحزاب العلمانية والمحافظة، نتائج إيجابية مُؤثّرة ومُثمرة إلى حدّ كبير. وينبغي لتونس أن تستفيد من الأخطاء والممارسات التي ارتكبت في البلدان العربية الأخرى للسّير على طريق تحقيق الدّيمقراطية والوصول بتونس إلى بر الأمان.
أولا؛ ينبغي للتّونسيين مواطنين وسياسيين أن يكونوا مستعدّين تماما لرفض أيّ تحرك من قبل الجيش والقول بقوة "لا" للتّدخل أو الوصاية العسكريّة، التي أصبحت "تقليدًا" في البلدان العربية. فلا يمكن للجيش مهما كانت الظروف أن يتدخل لإدارة البلاد والحديث عن تحقيق الحرّية والمساواة.
على صعيد آخر، يجب أن يشعر النّاس كلهم بالأمن والوئام مع الحكومة، والدّيمقراطية ليست مجرد كلام وشعارات بل هي ممارسة للحرّيات الفردية والجماعية وأداء للواجبات وحصول على الحقوق. قد يحصل حزب ما على الأغلبية من أصوات النّاس لكن الحكومة التي تتشكل بعد ذلك مسؤولة مسؤولية كاملة عن تحقيق الأمن والسعادة لجميع المواطين.
في تونس، هناك أناس يرغبون في العيش على الطريقة الإسلامية التقليديّة، وهناك أناس آخرون يرغبون في العيش وفق نمط حياة قريب من الحياة الغربية المنفتحة، وبالتالي ينبغي أن تبقى المساجد والشواطئ، على حدّ سواء مفتوحة في تونس، فمن أعظم إنجازات الحكومة التّركية في العقد الأخير أنها أظهرت قدرة فائقة في التعامل مع عدد من القضايا الحساسة في وقت واحد، فبالرغم من أن كوادر الحكومة يُحسبون في غالبهم على أنهم ذوو ميول إسلامية محافظة، عمل أفرادها جنبًا إلى جنب مع عناصر كثيرة علمانيّة في توافق وانسجام من أجل التوصل إلى حلول بخصوص قضايا داخلية وخارجية رئيسيّة مثل مسألة حزب العمال الكردستاني والقضية الأرمنيّة والمشكلة القبرصية والعلاقات مع إسرائيل.
التزم أردوغان في سياسته الخارجية منذ البداية بجملة من الاتفاقيات، فقد وقع جملة من الاتفاقات العسكرية والتجارية مع إسرائيل وأمريكا والاتحاد الأوروبي وسعى إلى تعزيز العلاقات مع جميع هذه الأطراف. وفي الوقت نفسه استطاعت تركيا أن تبني علاقات جيّدة مع الصين وروسيا وإيران، وعملت على تنمية تجارتها مع هذه الدول. ومع كل ذلك لم تخيّب تركيا ظنّ إخواننا في فلسطين بها, وبذلت ما في وسعها للحفاظ على العلاقات مع جيرانها العرب في ظل بيئة متوترة مليئة بالحروب الأهلية والصراعات الداخلية. وسمحت تركيا للمواطنين الإسرائيليين وكذلك المواطنين الإيرانيين على حدّ سواء بزيارتها دون أن تشترط عليهم تأشيرات دخول، وهم يقضون إجازاتهم على الشواطئ نفسها، ويتناولون الطّعام في المطاعم نفسها، ويسيرون ويتنقلون في الشّوارع نفسها.
على الحكومة التونسية القادمة أن تراعي جيدا هذا التنوّع في النسيج الاجماعي وهذا التعدد في الأفكار والاتجاهات والميول. من المهم جدا عدم الوقوع في الأخطاء التي وقع فيها الإخوان المسلمين في مصر، كما أنه من المهم كذلك عدم التمييز بأي شكل من الأشكال بين النساء المحجبات وغير المحجبات، وتشجيع الجميع على ممارسة الفنون. وينبغي أن ندرك جيدًا أنه أينما وُجد اضطهاد للنّساء وقمع لهن ولحريتهنّ, فلن يوجد رخاء ولن تُوجد سعادة. ومن أجل بلوغ مرحلة من الديمقراطية المستقرة والحقيقية في البلدان العربية ينبغي إقناع الجماهير المحافظة بأن الديمقراطية ليست معادية للإسلام، بل على العكس من ذلك، فالديمقراطية تعزّز الحريات وتحفظها وتهيئ البيئة المناسبة لظهور الإيمان الصّادق.
تسعى تونس لقطع المزيد من الخطوات على طريق الديمقراطية, ولاشك أنها سوف تكون رحلة شاقّة، فتركيا مرّت بمرحلة الاقتصاد المترهل، والجمود السّياسي وعانت الأمرين من الوصاية العسكرية. لكن على الرّغم من هذه الصعوبات فقد تمكّنت من التّغلب على هذه الصعاب جميعها، والآن هي في وضع يسمح لها بمد يد العون لشقيقتها تونس، وكما يقول المثل، "يد الله مع الجماعة".
إنّ تحرّك تونس بالتّعاون مع الدّول المجاورة وغيرها من البلدان الإسلامية من شأنه أن يزيل عبئا كبيرا عن كاهلها. ويمكن لتونس أن تحسّن وضعها الاقتصادي من خلال التعامل مع صندوق النقد الدولي. إنّ اقتراض تونس من صندوق النقد الدولي يمكن أن يساعدها في تجاوز الصعوبات الاقتصادية التي تمر بها في الوقت الحاضر. فهذا الصندوق منظمة ساهمت في دعم العديد من الدول ماليّا, كما أنّ الدول التي لديها عجز مالي يمكنها الاقتراض من هذا الصندوق لتحسين وضعها. ودعونا لا ننسى أنه بإمكان الدول الإسلامية إنشاء منظومة مالية خاصّة بها، وقد تكون أفضل ماليّا من خلال التعاون الحقيقي بين الدول الإسلامية، تماما كما حصل بين الدول الأوروبية. فهذه الدول خاضت في مراحل تاريخية حروبًا طاحنة ضد بعضها البعض استمرت لمئات السنين وتسببت في كوارث كبرى ومعاناة قاسية جدا، لكنها استطاعت أن تتوحد تحت راية "الاتحاد الأوروبي", فيمكن للبلدان الإسلامية أيضا أن تتوحّد بأواصر الإيمان والمحبة والأخوة بهدف تكوين قوة حقيقية يُحسب لها كلّ حساب.