نجح العباسيون، ثاني السلالات الحاكمة في تاريخ العالم الإسلامي، في حكم إمبراطورية شاسعة امتدت من شمال إفريقيا إلى وسط آسيا لما يقرب من أربعة قرون بين عامي 750 و1258، ومع ذلك، فإن ما يميز الدولة العباسية ما بنته من حضارة مذهلة في المعرفة والعلوم والفنون، والتي لا يزال يشار إليها اليوم باسم العصر الذهبي للإسلام.
تقع بغداد في مركز الإمبراطورية العباسية، وكانت تسمى آنذاك (مدينة السلام). بناها الخليفة العباسي المنصور عام 762. وقد صُممت كمدينة مستديرة يقع في وسطها المسجد ومقر الخليفة وهو قصر البوابة الذهبية. يحيط بهما ساحة ومبنى مائي. ثم تأتي بعد ذلك قصور أبناء الخليفة، ومنازل طاقم البلاط الملكي، والثكنات، والمطابخ والمكاتب الأخرى، جميعها محمية بجدار داخلي. كان للمدينة أربعة أبواب، يقود كل باب إلى مدينة مختلفة وتسمى الأبواب على النحو التالي: البصرة، والكوفة، وخراسان ودمشق.
مع نمو الدولة العباسية، تحولت المدينة إلى أكبر مركز للتعلم والمعرفة في العالم، ولعدة قرون، رحبت بصفوة المثقفين والمفكرين بل وأقاموا بها. كان أفضل العلماء من جميع أنحاء العالم يتدفقون إلى المدينة للتعلم والمشاركة وبناء المعرفة الجديدة، ما جعلها مركزًا رئيسيا للعلوم والفن والثقافة والبحث.
من وحي الآيات القرآنية وأحاديث النبي محمد صلى الله عليه وسلم التي تعلي من قيمة التعلم، قدّر العباسيون قيمة المعرفة إلى حد كبير وشجعوا بقوة المعرفة المتقدمة في العلوم والفنون. جمع الخليفتان هارون الرشيد والمأمون أعمالاً علمية مهمة وأساسية من جميع أنحاء العالم وجلبوها إلى المدينة. بنى الرشيد مكتبة الحكمة وجلب إليها المخطوطات والكتب التي جمعها أسلافه. ولكن مع زيادة المجموعة، ثبت أن بناء المكتبة لم يكن كافيًا فقام ابنه المأمون بتوسيع المبنى وتحويله إلى الأكاديمية الشهيرة المعروفة باسم بيت الحكمة. ومع ذلك استمر عدد أكبر من الباحثين والعلماء في القدوم وافتُتحت مراكز دراسية جديدة لاستيعاب الطلب المتزايد باستمرار، مع إضافة مرصد في عام 829.
اعتاد العلماء والكتّاب والمترجمون والمؤلفون والكثيرون غيرهم الاجتماع يوميا في بيت الحكمة للعمل والدراسة والمناقشة وتبادل الآراء حول مجموعة متنوعة من المواضيع. جاء الفنانون والعلماء رجالاً ونساءً، بغض النظر عن معتقداتهم، إلى المدينة لتوسيع معارفهم. وخلال هذا الوقت تُرجمت العديد من الأعمال المفقودة والمنسية للحضارات القديمة إلى العربية، والتي لعبت فيما بعد دورًا حاسما في النهضة الأوروبية وحافظت على تاريخ العصور القديمة.
اعتبر المأمون التعليم والمعرفة أمرين في غاية الأهمية، ويقال إنه دفع للمترجمين وزن كل كتاب مكتمل ذهبًا، وقد أدى هذا الدعم الحكومي للعلم والفن إلى إنجازات لا تصدق.
يشرح جون وليام دريبر في كتابه «تاريخ التطور الفكري في أوروبا» هذا الوقت العظيم في التاريخ بالكلمات التالية: «خلال فترة الخلفاء، لم يكن يُحترم المتعلمون من المسيحيين واليهود فقط، بل كانوا يُعينون في مناصب مسؤولة كبيرة ويرتقون إلى وظيفة رفيعة المستوى في الحكومة... لم يضع (الخليفة هارون الرشيد) في اعتباره إلى أي بلد ينتمي الشخص المتعلم ولا إيمانه ومعتقده، بل فقط تميزه في مجال التعلم».
وبالمثل، وصف المؤرخ والجغرافي الذي يعود إلى القرن التاسع اليعقوبي بغداد بأنها مدينة «ليس لها مثيل على الأرض، سواء في الشرق أو الغرب»، وذلك لكونها «أغلى مدينة في المنطقة، من حيث الأهمية، والازدهار، ولا يوجد أحد أفضل تعليمًا من علمائها».
من المؤلم بشكل خاص أن نرى كيف يتخلف الوضع الحالي لبغداد عن هذه الحقائق التاريخية، ولكن يوضح هذا الوضع أيضًا أنه بمجرد عودة المسلمين إلى دينهم الصحيح الموجود في القرآن والابتعاد عن الخرافات والتعصب الأعمى، لن يكون هناك ما يمكنه منعهم من تشكيل المجتمعات الأكثر حداثة وتطورًا وثقافة في العالم.