عندما تنهار الروح الإنسانية
ucgen

عندما تنهار الروح الإنسانية

17237

أمام الكوارث التاريخية التي شهدتها البشرية، لم ترتق معظم الأطراف في العالم إلى المستوى المطلوب منها، بل سلكت نوعًا من السلوك اللا إرادي متمثلًا في إغماض العيون ودفن الرؤوس في الرمال ما يحاكي «لعبة النعام». وقد فضل العديد من القادة والإداريين والممثلين في جميع أنحاء العالم، تجاهل ما يحدث، غير مبالين بهذه الكوارث التي تهز العالم.

لا تُشَكِل بنود جدول الأعمال العالمي اليوم سوى صالح الأقوياء ومشاكلهم، أما الذين يتعرضون للقمع فكثيرًا ما يتم تجاهلهم وتركهم يواجهون مشاكلهم وحدهم، ولا يجدون مساعدة من أحد إذا لم يكونوا من الفئات الغنية، أو لا يملكون نفطًا أو موارد طبيعية، أو ليس لهم أي شيء من شأنه أن يخدم مصالح الأقوياء.

إن التجاهل أو التقليل من شأن الممارسات اللا إنسانية التي يتعرض لها المسلمون أصبح تقليدًا قبيحًا ساري المفعول على نطاق واسع، خاصة في دوائر معينة، ونشاهد بحسرة كبيرة أن المشاكل التي يمكن حلها بسهولة وتدخلات بسيطة، وبتكلفة زهيدة وجهود متواضعة، تستمر للأسف في التعاظم بشكل مطرد، خلف جدار جماعي من اللا مبالاة. ولا تزال الأحداث الكارثية التي تحدث في راخين وسوريا وأفريقيا وجنوب شرق آسيا، تغذي تقارير الأنباء العالمية كل يوم، لتشكل وصمة عار في جبين البشرية.

فمعظم المؤسسات الدولية التي يمكنها أن تحل مشاكل الإنسانية لا تزال بعيدة كل البعد عن الوفاء بمهامها، فالأمم المتحدة، على سبيل المثال، تكتفي بمجرد إدانة الحوادث في راخين، من خلال إصدار قرار من مجلس الأمن، دون أن تبادر إلى تقديم أي حل ملموسٍ أو بنّاء لوقف المذابح والاضطهاد الذي يتعرض له مسلمو الروهينجيا، وما تصفه الأمم المتحدة نفسها بـ«الأقلية الأكثر اضطهادًا في العالم».

وكما هو معروف، لقد تعرض مسلمو الروهينجيا الذين يعيشون في ولاية راخين في ميانمار لحملات قمع واضطهاد شديدين منذ ما يقرب من 40 عامًا، ويجبرون باستمرار على مغادرة منازلهم من قبل أفراد جيش وحكومة ميانمار، في ظل تصعيد حملات الاضطهاد والقمع والمذابح وسياسات النفي الإجباري، بشكل منتظم من قبل حكومة ميانمار منذ عام 2012، وقد بلغت هذه الوحشية مستوى غير مسبوق من التطهير العرقي الكامل في العامين الماضيين.

وعلى الرغم من هول هذه المأساة، لم يُطرح أي حل ملموس أو شكل من أشكال التدخل من قبل المجتمع الدولي، باستثناء الإدانات والدعوة إلى الهدوء، ولا يزال العالم يتجاهل الوضع المؤسف الذي يتخبط فيه 900 ألف لاجئ من الروهينجيا، الذين يكافحون من أجل البقاء في ظروف لا إنسانية في بنجلاديش.

في عالم اليوم، تصل المبالغ التي تنفق في مجالات مثل الاستهلاك المترف، والترفيه، والرياضة، وما إلى ذلك، إلى مئات المليارات من الدولارات كل عام، الأمريكيون على سبيل المثال، أنفقوا وحدهم 30.4 مليار دولار على ألعاب الفيديو في عام 2016، أما أندية كرة القدم في الدوري الممتاز البريطاني، أنفقت 1.47 مليار جنيه على تحويلات اللاعبين في صيف عام 2017 وحده، وإذا قمنا بتمديد هذه الأرقام لتشمل جميع أنحاء العالم وعلى مدى فترة أطول من الزمن، نجد أنه من الصعب تصور الأرقام الفلكية التي ستظهر في الأفق، وإن ما نقصده هنا ليس معناه أن الرياضة والترفيه أو الإنفاق الفاخر أمر منهي عنه، أو تصرف خاطئ، لكن ما ينبغي أن نتذكره هو ضرورة منح الأهمية والشعور بالمسؤولية إزاء الحياة البشرية المهددة بالفناء، والحق في العيش الكريم، على الأقل بالقدر الذي تحظى به الأمور الأخرى.

ومن الجدير تقديم بضعة أرقام مذهلة أخرى لتوضيح الصورة، في كل عام يُبَذر ثلث إجمالي كمية الأغذية المنتجة للاستهلاك البشري في جميع أنحاء العالم -حوالي 1.3 مليار طن سنويًّا- وقد بلغت الأموال التي أنفقت لشراء الأسلحة على مستوى العالم في 2016 وحده 1.57 تريليون دولار.

وكان يمكن من خلال إنفاق ولو جزءٍ صغيرِ جدًا من هذه الأموال، بكل سهولة، إنقاذ حياة مئات الآلاف من المسلمين الروهينجيا، وتمكينهم من الحفاظ على حياتهم في ظروف إنسانية.

يبدي العالم الإسلامي هو أيضًا نفس اللا مبالاة والإهمال تجاه القضايا الإنسانية اليوم، أما المسلمون الذين تعرضوا للتعذيب وأجبروا على ترك أوطانهم لعقود في راخين، فلا يجدون الحماية الكافية من قبل البلدان الإسلامية عمومًا.

لا يمكن تصور أن يظل المسلم في وضع المتفرج لا يحرك ساكنًا، ولا يعتني إلا بمصالحه الشخصية، في الوقت الذي يتعرض فيه إخوانه للاضطهاد، ويصارعون من أجل البقاء، ويتضورون جوعًا، ويعانون من فقر مدقع.

ولا تعدو أزمة راخين أن تكون سوى واحدة من جملة المآسي الإنسانية الجارية في العالم، إذ يكافح المواطنون في سوريا والعراق وأفغانستان واليمن وليبيا وتركستان الشرقية وفلسطين والصومال وآسيا وأفريقيا، من أجل البقاء على قيد الحياة، في ظل مآس مماثلة تحدث كل يوم، في صراع من أجل البقاء والعيش في معاناة مستمرة، ولن تنتهي المعاناة في العالم الإسلامي ما لم يضع المسلمون حدًّا للانقسامات الطائفية والنزاعات التي تدمرهم، وما لم يجمعوا كلمتهم ويوحدوا صفوفهم لتشكيل قوة موحدة.

ولبلوغ هذا الهدف، فلا بد من رفع صوت الخيرين من أصحاب الضمائر الحية والأخلاق الرفيعة والروح النبيلة، وكل من لا يشعر بالسعادة إلا حين تعم السعادة والفرح وراحة البال قلوب غيرهم من الناس، بدلًا من التمتع بأنانية مقيتة. مؤكد أن الأمر سيظل على حاله ولن تتصدر مأساة المظلومين «جدول أعمال العالم» إلا إذا تبوأ هؤلاء الناس الرائعون الأذكياء المحبون وذوو الرحمة مراكز السلطة، وأصبحوا قادة المؤسسات الدولية ورؤساءها، فعندئذ فقط يمكن معالجة مشاكل مثل التي نشهدها اليوم، وجلب السلام والازدهار للمضطهدين في العالم.

https://www.sasapost.com/opinion/when-the-human-spirit-collapses/

يشارك
logo
logo
logo
logo
logo