هارون يحيى
تأسست الجمهورية التركية - التي قامت على 600 عامٍ من التقاليد العثمانية - في بداية القرن العشرين، ووقفت منذ نشأتها عند نقطة التقاطع بين الجبهة الشرقية والجبهة الغربية. عندما انجذبت للغرب، استشعرت قوى التهديد القادمة من الشرق على أعتابها، وعندما ولت وجهتها نحو الشرق، شعرت بنفس التهديد قادمًا من الغرب.
كان القرن العشرون وقتًا غاب فيه الرشد، الدول التي خرجت من الحروب العالمية كانت خارج السيطرة ومدفونة عميقًا في مصائب العنف تحت تأثير الأيديولوجيات الضالة. لعلنا نعيش هذا الإرهاب بشكل مختلف في القرن المعاصر، لكن الجميع - تقريبًا - أدرك حقيقة أنَّ نموذج العالم الواقع تحت الاستقطاب لن يجعلنا أفضل حالًا.
تعدُّ تركيا أحد الدول المُدركة لتلك الحقيقة، لا توجد حربٌ باردةٌ اليوم، ولهذا تركيا ليست مضطرة للانحياز ضد دولة تلبيةً لرغبات دولةٍ أخرى. ربما يفسر معظم الناس عضوية تركيا في الناتو كعضوية في اتفاقية غربية، وهذا صحيح بشكل أساسي، الناتو معاهدة غربية، لكن استمرار هذا الوضع ليس مُلزمًا، وكما أنَّ إنشاء الناتو جاء لحفظ السلام، فإنَّ من الأفضل في الوضع الحالي أن يتم دمج الشرق أيضًا، وترسيم هدف في هذا الاتجاه.
لو عدنا لوضع تركيا، نجد - دون شك - أنَّ عضوية الناتو عامل مهم، لكن لا يوجد شك اليوم في أنَّ الناتو يحتاج تركيا أكثر من احتياج تركيا للناتو. لا يوجد طرف في موضع يؤهله لإجبار تركيا على الانحياز لأي طرف في الظروف الحالية.
لو جاز لنا تقييم الموضوع على أساس تقارب روسي تركي، سنصل للحقيقة التالية: بينما كانت تركيا تطور من صداقتها الطويلة مع روسيا، لم يحدث أن أدارت ظهرها للناتو أو للتحالف الغربي، لأنَّ تركيا دولة أدركت أنَّ الحل الحقيقي لمشاكل العالم سيتحقق من خلال التحالفات لا الاستقطاب، ففي تركيا حيث يبرز الاستقطاب من حين لآخر، تمثل حقيقة أنَّ إحساسًا متأصلًا بالاتحاد قد تشكل خلال ليلة واحدة فقط، دليل دامغ على هذا الأمر، وستعمل تركيا مستقبلًا على الحفاظ على حالة الوحدة مع جيرانها وحلفائها.
عند النظر للوضع من تلك الزاوية، لا يرسم المشهد المبهج لزعيمين يتصافحان في سان بطرسبرج، صورة لتركيا التي تتخذ موقفًا ضد الغرب، لكنها ترسم صورة لتركيا التي يمكنها مصادقة كل من الغرب والشرق.
ويجب أن نُذَكِّر بأن التقارب بين تركيا وروسيا يعدُّ تطورًا من شأنه تحقيق نتائج مهمة في الملف السوري أيضًا، وبرغم تبنِّى تركيا وروسيا لوجهات نظر متباينة بخصوص سوريا في السابق، إلا أنهم دولتين تمكنتا من التوصل إلى تفاهم، ومع ذلك، تم الوصول إلى اتفاق أثناء اجتماع الأسبوع الماضي، إذ أكد الطرفان تحديدًا على أهمية وحدة الأراضي في سوريا، هذه أرضية مشتركة، وستسمح هذه الأرضية المشتركة باتخاذ قرارات مهمة بخصوص سوريا، وستؤدي إلى تقارب مشترك.
عند هذه النقطة، تشكل عضوية تركيا في الناتو أهمية عظيمة، كجسر بين العالم الغربي والشرقي، ويمكن لتركيا أن تعمل كمفاوض بخصوص الخطوات الواجب اتخاذها بالنسبة للوضع في سوريا، والدعم الموحَّد للدول المحورية في الشرق الأوسط ستلعب دورًا هامًا في تلك المسألة.
الصداقة أمرٌ جيدٌ، واختلاق أزمة سياسية بسبب صداقة دولتين أمر ينتمي إلى عالم حكايات السياسة الواقعية الباردة الخالية من الحب، ويجب على السياسة العالمية والإعلام التخلي عن وجهة النظر تلك. لقد تم تضخيم أثر التجارب المؤلمة بشكل كبير، ولا يعد الحل لهذه المسألة ممكنًا من خلال تقديم الدول لمكاسبها الشخصية، بل من خلال اتحاد الحب، والتحالفات القوية.