على مر التاريخ، رغبت الكثير من الدول ذات القوة والسطوة في السيطرة والتحكم في الدول الأضعف رغبة منها في زيادة ثرواتها ومقدراتها ودائمًا ما كانت هذه السيطرة في صورة "الاستعمار". كنتيجة لذلك، تتمكن تلك الدول الاستعمارية من السيطرة على القوى العاملة والموارد البشرية والأسواق في الدول التي قاموا باحتلالها.
مع نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، بدأ مفهوم "الدولة القومية" ينتشر أكثر فأكثر واضعًا بذلك النهاية لمفهوم الاستعمار بشكل تدريجي. تطور العلم والتكنولوجيا أدى إلى ردود أفعال اجتماعية شرسة رافضة تمامًا لمحاولات الاستعمار والغزو والاستعباد والاحتلال الذي ساد العالم لفترات طويلة. لهذا السبب، ظهرت طرق أكثر دهاءً بل وتم تدعيمها بقوانين ساعدتها على الاستمرار لفترات طويلة.
بدأت الدول العظمى بتطوير خطط استعمارية جديدة عقب الحرب العالمية الثانية، وسارعت لوضعها قيد التنفيذ. أحد أكبر هذه الخطط هي مشروع الشرق الأوسط الكبير الذي يستهدف الشرق الأوسط والعالم الإسلامي، نشر أعمال العنف في دول الربيع العربي، توجيه الدعاية نحو عدد من الدول الإسلامية كأفغانستان والعراق وليبيا ومصر وسوريا واستهداف إشعال الحروب الداخلية فيها، خلق صراعات ونزاعات وحركات انفصالية في تركيا وحدودها الجنوبية وإشعال المعارك الطائفية، كل هذه الأمور هي جزء من هذا المشروع أملًا في الوصول لخريطة جديدة للشرق الأوسط.
ربما يكون القول بأن عصر الاستعمار قد انتهى، ولكن الممارسات الاستعمارية لم تنته. فربما قد انتهت الأسماء التي استخدمت قديمًا كالاستعمار والإمبريالية، وتم استخدام مصطلحات جديدة كـ "الديموقراطية" و"الحرية" و"حق تقرير المصير" و"استقلال المضطهدين"، كل تلك المصطلحات بلا شك هي لتبرير تلك الأفعال القديمة.
كما يعرف القراء، فقد اعتمدت الأمم المتحدة عددًا من المعاهدات عام 1966 سميت بالعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، ودعت الدول الأعضاء للتوقيع عليها، كانت أهم بنود هذه المعاهدات هي:
1. لجميع الشعوب حق تقرير مصيرها بنفسها، وهي بمقتضى هذا الحق حرة في تقرير مركزها السياسي وحرة في السعي لتحقيق نمائها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي.
2. لجميع الشعوب، سعيًا وراء أهدافها الخاصة، التصرف الحر بثرواتها ومواردها الطبيعية دونما إخلال بأية التزامات منبثقة عن مقتضيات التعاون الاقتصادي الدولي القائم على مبدأ المنفعة المتبادلة وعن القانون الدولي. ولا يجوز في أية حال حرمان أي شعب من أسباب عيشه الخاصة.
3. على الدول الأطراف في هذا العهد، بما فيها الدول التي تقع على عاتقها مسؤولية إدارة الأقاليم غير المتمتعة بالحكم الذاتي والأقاليم المشمولة بالوصاية، أن تعمل على تحقيق حق تقرير المصير وأن تحترم هذا الحق، وفقًا لأحكام ميثاق الأمم المتحدة.
بعد ذلك بفترة تبنى الاتحاد الأوروبي الاستراتيجية ذاتها وكذلك المجلس الأوروبي والتي تقوم على فكرة الدفاع عن الاستقلال الذاتي كشرط أساسي لبناء أوروبا جديدة تقوم على مبادئ الديموقراطية، واعتُمِدَ مشروع قانون بعنوان "الميثاق الأوروبي للحكم الذاتي المحلي" دخل بعد ذلك حيز التنفيذ عام 1988.
هذه القوانين التي تعطي في ظاهرها بارقة أمل نحو نشر وترسيخ الديموقراطية، كانت في حقيقة الأمر أرضًا خصبة مهدت تدخل الدول العظمى في شؤون الدول الأخرى. لا يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل وفرت هذه القوانين أرضية قانونية للاضطرابات المدنية والحروب الأهلية، أدت قوانين الحكم الذاتي تلك في نهاية المطاف إلى تقسيم الدول إلى مئات من الدويلات الصغيرة، لتكون صورة جديدة للاستعمار في القرن الواحد والعشرين والذي حل بدلًا من الإمبريالية التي طغت على القرن التاسع عشر.
في الواقع تعتبر الدول الأوروبية هذه القوانين خطرًا محتملًا على وحدة الأوطان لذا فقد قامت كل تلك الدول بوضع الكثير من الاحتياطات التي تضيق من حيز تنفيذها، ولهذا السبب أيضًا لم تقبل الكثير من الدول بهذه القوانين إلا مع الكثير من التحفظات والاحتياطات التي لولا اتخاذها لحدث الكثير من التقسيم للدول الأوروبية: كإقليم الباسك وكاتالونيا في إسبانيا، وكذلك لانفصلت إسكتلندا وويلز عن بريطانيا وفينيتو عن إيطاليا والإقليم الفلمنكي عن بلجيكا وجزيرة كورسيكا عن فرنسا، كل هذه الأقاليم وغيرها كان من الممكن أن تنفصل وتستقل بذاتها وتسير على خطى البلقان الممزقة.
ربما من المثير والغريب أن الكثير من تلك الدول التي اعترضت بقوة على أي مقترح للحكم الذاتي أو التقسيم بداخلها، تدعم هذه الفكرة بشكل علني إذا كانت ستطبق في الشرق الأوسط والدول الإسلامية وتركيا.
اليوم، تقف الدول العظمى لتعد وتدعم بتكوين دويلات مستقلة لبعض المجموعات الإرهابية الشيوعية كحزب العمل الكردستاني وأن تدعمهم عسكريًا وماديًا تحت مسمى "الحكم الذاتي الديموقراطي" و"تحرير الشعوب". على الجانب الآخر، ترى تلك الدول صامتة تمامًا وغير مبالية لإنقاذ الشعوب المضطهدة كالروهنيجا وتركستان الشرقية وكشمير والذين حرموا من حقوقهم الإنسانية على مدى العقود الماضية.
ربما يجري اليوم تنفيذ تلك الخطة الأكثر دهاءً على الإطلاق، أصبح يبدو واضحًا أنها دخلت حيز التنفيذ على مرأى ومسمع من الجميع، مع اتخاذ سياسة الكيل بمكيالين عند الحاجة واستخدام الأساليب الملتوية والتخفي وراء الشعارات والوعود البراقة. لهذا السبب، فإنه من المهم نشر هذه الحقائق وتوعية الشعوب بتلك المخططات التي تستهدفهم ليستطيعوا فهمها ومواجهتها بأنفسهم.
The writer has authored more than 300 books translated in 73 languages on politics, religion and science. He may be followed at @Harun_Yahya and www.harunyahya.com
للكاتب أكثر من 300 كتاب تم ترجمتها إلى 73 لغة مختلفة تتحدث في السياسة والدين والعلم، يمكنك متابعته على تويتر @AdnanOktar56 أو من خلال الموقع ar.harunyahya.com
http://www.al-watan.com/