ما إن يظهر الإنسان إلى الوجود حتى يصبح عرضة لتعاليم المجتمع الثابتة، وجزءاً من هذه التعاليم· وقد يكون أولها هو أن كل مانراه بأعيننا ونلمسه بأيدينا حقيقة· هذا المفهوم يتم تبنيه دون أي نقاش لشيوعه المطلق في المجتمع · إلا أن شيئاً من التفكر وبتجرد من أي تعاليم سابقة، سيجعلنا نواجه حقيقة مدهشة :
منذ اللحظة التي نأتي بها إلى هذه الحياة نتعرف إلى كل الأمور التي تحيط بنا عن طريق حواسنا· فالكون والبشر والحيوانات والنباتات وألوان الزهور، والروائح، والفواكه وطعم الفواكه، والأحجار والجبال والكواكب والنجوم والأبنية والفضاء ـ باختصار كل ما حولنا ـ هي مدارك تنقلها لنا أحاسيسنا· ولمزيد من الوضوح علينا أن نتكلم عن أحاسيسنا التي تقدم لنا المعلومات عن العالم الخارجي · تعمل حواسنا: الرؤيا، السمع، الذوق، الشم واللمس بشكل متشابه· فالصور التي نستقبلها من العالم الخارجي، والتي نعتقد أنها حقيقية (أو ما نسمعه أو نتذوقه أو نشمه أو نلمسه)، تنتقل عبر الأعصاب إلى المراكز المختصة في الدماغ· هنا يستقبل الدماغ ذبذبات كهربائية· على سبيل المثال، تمر الفوتونات (الحزم الضوئية) خلال عملية الرؤيا من الشيء المرئي إلى العين عبر العدسة الموجودة في مقدمتها، حيث تنعكس وتسقط على الشبكية في الجزء الخلفي من العين· يتم إدراك الإشارات الكهربائية المتولدة عن الشبكية كصورة في المركز البصري في الدماغ بعد سلسلة من العمليات· ونحن بدورنا ندرك من خلال مركز الرؤيا الموجود في الدماغ والذي لا تتعدى مساحته بضعة سنتمترات مكعبة، العالم الخارجي بأبعاده الثلاثية وأنواره وصوره وألوانه ·
كذلك الأمر بالنسبة لباقي الأحاسيس، فالذوق مثلاً يتحول إلى إشارات كهربائية بواسطة خلايا خاصة في الفم واللسان، ثم ينتقل إلى مركز الذوق في الدماغ · مثال آخر يزيد الأمر وضوحاً· لنفترض أنك في هذه اللحظة تشرب كأساً من الليمون البارد، تتحول برودة الكأس وصلابته إلى إشارات كهربائية بواسطة خلايا خاصة موجودة تحت الجلد وتتحول إلى الدماغ· في نفس الوقت ينتقل طعم الليمون الحلو الذي تشعر به وأنت ترتشف العصير، ورائحته، ولونه الأصفر الذي تراه عندما تنظر إلى الكأس، إلى الدماغ على شكل ذبذبات كهربائية ·
ما تظن أنك تراه في الواقع ما هو إلا مُدرك من المدركات. العالم الذي تعيش فيه أيضاً ليس إلا مجموعة من المدركات. |
كذلك الأمر بالنسبة للصوت الذي يصدر عن الكأس عندما تضعه على الطاولة، تدركه الأذن، وتنقله إلى الدماغ بشكل ذبذبات كهربائية· تعمل المراكز الحسية الموجودة في الدماغ، والتي يختلف بعضها عن بعض بشكل كلي، وبتعاضدٍ في محاولة لتفسير كل هذه المدرَكات· وكنتيجة لهذه التفسيرات يفترض أنك تشرب كأس العصير، بمعنى آخر : تأخذ هذه العمليات مجراها داخل الدماغ في المراكز الحسية، بينما تعتقد أنت أنك تمسك بواقع صلب ·
إلا أنك تبدو في هذه اللحظة بمظهر المخدوع، ذلك لأنه لا يوجد دليل على أن ما تدركه داخل دماغك له وجود مادي خارج جمجمتك · الموضوع الذي ناقشناه حتى الآن هو حقيقة واضحة· وبإمكان أي عالم أن يخبرك بالطريقة التي تعمل بها هذه الأنظمة، وأن العالم الذي نعيش فيه ما هو إلى مجموعة من المدركات· يقول العالم الفيزيائي البريطاني جون غريبين فيما يخص التفسيرات التي يقوم بها الدماغ: إن حواسنا تشبه المفسر الذي يفسر الاستثارات الخارجية، وكأن هناك شجرة في الحديقة··· يتابع قائلاً :
إن دماغنا يدرك الاستثارات التي تتم تنقيتها من خلال الحواس، وأن الشجرة هي مجرد مثير، ثم سأل بعد ذلك: ماهي الحقيقية؟ الشجرة التي تشكلت من خلال أحاسيسنا أم الشجرة الموجودة في الحديقة؟16
لا شك أن هذه الحقيقة تستحق تفكيراً عميقاً· حتى الآن من الممكن وبسهولة الاعتقاد بأن كل ما نراه في الخارج مادة حقيقية، إلا أنه وفي الوقت ذاته يخبرنا العلم: أنه لا توجد طريقة لإثبات أن الأشياء لها ارتباط مادي في العالم الخارجي · هذه القضية هي أكبر حقيقة يمكنك أن تأتي عليها في حياتك، فلا تتجاهل هذه الحقيقة الواضحة وابدأ بالتفكير بها بشكل جدي ·
ناقشنا حتى الآن حقيقة أننا نعيش داخل جمجمتنا، ولا ندرك أكثر مما تنقله إلينا حواسنا· لنتقدم خطوة أخرى فنـتساءل: ''هل ندرك أشياء حقيقية أم خيالية؟ ''· ولنطرح سؤالاً آخر: هل هناك ضرورة لوجود العالم الخارجي حتى نسمع ونرى؟
لا ليس هناك أي حاجة للعالم الخارجي لكي نسمع أو نرى· مثيرات الدماغ بأي شكل من أشكالها تستثير عمل جميع الحواس، وتشكل الأحاسيس، والرؤيا والأصوات، وأفضل مثال على هذا هو الحلم ·
عندما نتفكر بهذه الحقيقة بعمق، نجد أنفسنا أمام حقيقة مذهلة. إن الدماغ الذي تتواجد فيه المراكز الحسية ليس إلا قطعة من اللحم تزن 1400 غ، وقطعة اللحم هذه تحميها الجمجمة التي تتكون من مجموعة من العظام. توفر هذه الحماية للدماغ انعزالاً عن الضوء والضوضاء والروائح وكل ما يمكن أن ينفذ من هذه البنية العظمية. يسود الظلام الحالك داخل هذه الجمجمة بانعزال تام عن كل المؤثرات الخارجية، ومع ذلك فنحن نعيش حياة صاخبة داخلها مليئة بالأصوات والألوان والروائح، فكيف يحدث هذا؟ |
تكون أثناء حلمك في غرفة مظلمة هادئة وعيناك مغلقتان بإحكام، إذاً أنت غير متصل مع العالم الخارجي ولا يصلك منه ما يمكن أن تدركه···لا ضوء ولا أصوات، ومع ذلك فأنت تمارس في حلمك الأشياء نفسها التي تمارسها في يقظتك· ففي حلمك تنهض وترتدي ثيابك مسرعاً لتخرج إلى العمل· وفي الحلم تستمتع بأشعة الشمس الدافئة في إجازتك · إلى جانب ذلك أنت لا تشعر بأدنى شك وأنت تحلم أن ماتراه حقيقة· فقط عندما تستيقظ تشعر بأن ذلك كان حلماً· في حلمك تشعر بالقلق والخوف والسعادة والألم، وبنفس الوقت أنت تشعر بصلابة الأشياء، مع أنه لا يوجد مصدر يولد هذه المدارك، فأنت لا تزال في غرفة مظلمة وهادئة ·
يقول ديسكارتس حول حقيقة الأحلام المدهشة : أرى في أحلامي أنني أذهب إلى عدة أماكن وأقوم بعدد من الأعمال، ولكنني عندما أستيقظ، أجد أنني لم أذهب إلى مكان ولم أقم بأي عمل وأنني لا أزال في الفراش· من يضمن لي إذاً أنني الآن لا أحلم وأن الحياة كلها مجرد حلم؟17
أي أننا عندما نحلم نظن أننا في الحقيقة ولا نكتشف واقع الحلم إلا عندما نستيقظ، لا يمكننا أن ندعي أن ما نعيشه في يقظتنا هو حقيقة· من المحتمل جداً أن نستيقظ في يوم من الأيام من هذه الحياة على الأرض، التي نظن أنفسنا أننا نعيشها، لنبدأ بالعيش في الحياة الحقيقية· ليس لدينا أي دليل لإنكار ذلك· على العكس، إذ إن الاكتشافات العلمية تثير المزيد من الشكوك حول حقيقة الحياة التي نمارسها في هذا العالم · هنا نأتي على حقيقة جلية: ففي حين نعتقد أن العالم الذي نعيش فيه موجوداً، لا يوجد أساس نبني عليه هذا الاعتقاد· من الممكن جداً ألا يكون لهذه المدارك أي ارتباطات مادية· وحيث إن هذا من الوضوح بمكان ·
أولئك الذين يسمعون هذا للمرة الأولى يتصرفون بهذه الطريقة: "أنا أمسك بيدي وأرى بعيني لذلك فهي موجودة". ولكن على الإنسان أن يتذكر أيضاَ أنه يرى في حلمه ويمسك بيديه، بل ويمارس كل ما يمارسه في الحقيقة، يتمتع، يخاف، يتألم ويستمتع، ثم يستيقظ ليدرك أن كل ما عاشه كان مجرد حلم. هذه بالضبط هي حقيقة الحياة التي نعيشها. في يوم من الأيام سينهض الإنسان من الحلم ويواجه الحياة الحقيقية. |
فعليك ألا تتجاهل أن ماتراه وتسمعه وتلمسه وتتذوقه، باختصار: ''الأشياء'' التي تعرفها في العالم المادي، ما هي إلا خيالات تتراءى لك · إذا كان الشيء الذي نعرفه في العالم المادي يتكون من مدركات وحسب تتراءى لنا فماذا عن الدماغ؟ أليس هو أيضاً مجموعة من الجزيئات والذرات؟
إنه مثل أي شيء نعتبره ''مادة''، فأدمغتنا هي مدارك أيضاً···لا استثناء، فهي في النهاية قطعة من اللحم ندركها بحواسنا· إنها مثل كل ما نعتقد وجوده في العالم الخارجي، ما هي إلا خيال يتراءى لنا · إذن من يدرك هذا كله؟ من يرى، من يسمع، من يتذوق؟
كل هذا يضعنا أمام حقيقة ناصعة: إن الإنسان الذي يسمع ويرى ويتذوق ويشعر، ليس سوى مجموعة من الذرات والجزيئات تشكل ما يسمى الجسم· إلا أن ما يجعل الإنسان إنساناً هي الروح التي وهبها الله لنا·وإلا فسيكون عزو المهارات والصفات التي أسبغها الله على الإنسان إلى قطعة اللحم التي لا يتعدى وزنها 1^5 كغ ضرباً من اللاعقلانية، هذا إذا لم نقل: إنها لا تتعدى كونها خيالاً· لهذا عليك أن تتذكر دائماً أن ما يجعلك إنساناً هي روح الله التي ''نفخها فينا '':
الَّذي أَحْسَنَ كُلَّ شَيءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِنْ طِيْنٍ ثمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهيْنٍ ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فيه مِن رُوْحِهِ وجَعَل لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَليْلاً مَا تَشْكُرونَ .
السجدة: .9-7
بما أن الإنسان ليس كومة من المادة وإنما ''روحاً''، فمن الذي خلق ووضع مجموعة المدركات في أرواحنا؟
حقيقة مذهلة أخرى: بعيداً عن الروائح والمذاقات والأصوات والألوان، فإن "الأبعاد" و "المسافات" أيضاً مدركات يتم إدراكها داخل الدماغ. |
الجواب بسيط: إنه الله الذي نفخ روحه فينا هو الذي خلق كل ما حولنا· المصدر الوحيد لهذه المدركات هو الله· لا يوجد إلا ما خلق هو· تقول لنا الآية التالية، إنه هو خالق كل شيء وإنه لاشيء سيستمر في هذا الوجود :
إنَّ اللهَ يُمسِكُ السَّمواتِ والأَرضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعدِهِ إِنَّهُ كان حَليْماً غَفُوراً . فاطر: 41 ·
وكنتيجة للثوابت التي يتعرض لها الناس منذ ولادتهم فإنهم لن يسلموا بهذه الحقيقة بسهولة· ولكن سواء سلموا بها أم تجاهلوها فهي حقيقة أكيدة· ولا يقتصر الأمر على العالم الخارجي بل يتعداه إلى الأفعال أيضاً التي يزعم الإنسان أنها من صنعه، لا تحدث إلا بمشيئة الله· لا يوجد عمل منفصل عن المشيئة الإلهية ·
واللهُ خَلَقَكُم وَمَا تَعْمَلُونَ . الصافات: .96
وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى . الأنفال: 17 ·
الحقيقة: هي أن كل إنسان مغلق ضمن صورته الخاصة التي تظهر له من خلال الحواس. كل منا له عالمه الخاص، لا أحد يعرف ما يفعله أو يراه الآخر، بل حتى لا يمكن لأحد أن يعرف ما إذا كان الآخرون يرون أصلاً أم لا يرون؛ ذلك لأن الناس شأنهم شأن سائر الأشياء صور يتم إدراكها داخل الدماغ. هذه الحقيقة تعتبر من أهم أسرار حياتك. |
نستنتج من كل ما تقدم أن الله هو الوجود المطلق الوحيد ، لا وجود لغيره، يحيط بالسموات والأرض وما بينهما· يخبرنا الله عز وجل في القرآن الكريم أنه موجود في كل مكان وأنه بكل شيء محيط :
أَلا إِنَّهمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّه بِكُلِّ شَيءٍ مُحيْطٌ . فصلت: .54
وَللهِ المَشْرقُ وَالمغْربُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ إِنَّ اللهَ واسعٌ عَليمٌ . البقرة: 115·
وللهِ مَا في السَّمواتِ ومَا في الأَرْضِ وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ شَيءٍ مُحيطاً . النساء: 126 .
وَإذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ ربَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ··· الإسراء: .60
اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الحيُّ القَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا في السَّموات وَمَا في الأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْديْهِمْ وَمَا خَلْفَهُم وَلا يُحيطُوْنَ بِشيءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِما شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمواتِ والأَرْضَ وَلاَ يؤُودُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ العَليُّ العَظيمُ . البقرة: 255 .
عليك أن تتذكر دائماً أن الله محيط بك، وأنه موجود في كل مكان، ومعك في كل لحظة يراك ويسمعك، وهو أقرب إليك من حبل الوريد ·
. 16.تاسكين تونا ، (ما وراء الفضاء)، ص 194.
17. ماسيت غوكبيرك، تاريخ الفلسفة، ص 263.