انهارت المحادثات القبرصية مرة أخرى أثناء المؤتمر المنعقد في منتجع كراس مونتانا السويسري، بعد سير هذه المفاوضات وفق نمط مألوف يكاد يتحول إلى تقليد ثابت في السنوات الخمسين الماضية. وقد انتهى المؤتمر الذي دامت أشغاله عشرة أيام بحضور وفود من القبارصة اليونانيين والقبارصة الأتراك وممثلي الدول الضامنة لتركيا واليونان والمملكة المتحدة، مرة أخرى من دون التوصل إلى اتفاق.
تراوح هذه المحادثات مكانها رغم أن السبب الكامن وراء هذا النزاع المستدام الذي يبدو بدون نهاية، والذي شهد أطول سلسلة مفاوضات، ليس سببا معقدا لدرجة يستحيل معه التوصل لتسوية، لكن المعضلة التي تعرقل التقدم نحو حل هي أن كل طرف من طرفي النزاع له مفهومه الخاص لمعنى "الحل"، يختلف عن مفهوم الطرف الآخر.
لم تتزحزح الإدارة القبرصية اليونانية قيد أنملة عن الاتجاه الذي سطرته لها الإدارة اليونانية، لتستمر في التزامها بفكرة ميغالي (القائمة على أسس قومية عرقية تقضي بإنشاء دولة تشمل كافة اليونانيين بما في ذلك الذين كانوا تحت الحكم العثماني بعد حرب استقلال اليونان سنة 1830)، مما نجم عن ذلك، أن دوائر معينة استمرت في نظرتها إلى الوجود التركي في الجزيرة باعتباره أقلية ينبغي وضع حد لها في نهاية المطاف، جزئيا عن طريق الاستيعاب، وفي الجزء الآخر من خلال الترحيل. وتتمثل الخطوة الأولى والأكثر أهمية بالنسبة لهذه الدوائر، لتحقيق هذا الهدف، في قطع كافة سبل المساعدة التي تقدمها تركيا للقبارصة الأتراك وتحويلهم إلى مجتمع معزول وضعيف ومن دون حماية.
وبطبيعة الحال، بدون تلبية هذه الشروط أولا، لن تولي الإدارة القبرصية اليونانية أدنى اهتمام للتنازلات الأخرى التي يمنحها الجانب التركي، وهو ما يعزز تصلب الجانب اليوناني ويزيد من تصميمه دون التزحزح عن موقفه المتمثل في "صفر جندي تركي، وصفر ضمانة". وبعبارة أخرى، معنى "الحل" بالنسبة للجانب اليوناني، هو ضرورة القبول التركي لهذه الشروط، وطالما استمر رفضه لهذه الشروط، سيواصل الجانب اليوناني إفشال المحادثات مع توجيه الاتهامات إلى الجانب الآخر.
من المؤسف أن الجانب التركي قدم، خلال فترة خطة أنان وما بعدها، تنازلات لا لزوم لها لم تؤد سوى إلى الإضرار بجمهورية شمال قبرص التركية ومواطنيها دون تحقيق أي مصلحة لهم. شملت هذه التنازلات تخفيض عدد القوات التركية في الجزيرة ونقل الأراضي والممتلكات إلى الجانب الآخر، لكن مع احتفاظ الجانب التركي أيضا بخطوط حمراء مثل "استمرار وجود القوات التركية في الجزيرة"، و"موقف تركيا باعتبارها الضامن الثابت"، و"حق تركيا المستمر للتدخل في قبرص، وفق ما تنظمه المعاهدات الدولية"، الأمر الذي رفضه الجانب اليوناني رفضا قاطعا. وقد كان رفض الجانب القبرصي اليوناني هو السبب الوحيد وراء توقف الجانب التركي عن تقديم التنازلات غير الضرورية، ما يمكن اعتباره في الواقع بمثابة نعمة بالنسبة لجمهورية شمال قبرص التركية ولمواطنيها لأن الاستمرار في تلك التنازلات كان يشكل مخاطرة جسيمة لهم.
وكشفت المحادثات الختامية في سويسرا بوضوح النوايا الحقيقية للإدارة اليونانية وأثبتت أيضا أنه ما لم يتخل الجانب التركي عن خطوطه الحمراء، فلن يوافق الجانب اليوناني أبدا على تسوية بغض النظر عن أي تنازلات أخرى قد يقدمها الجانب التركي، وهو ما أوضحه وزير الخارجية التركي ميفلوت كافوسوغلو في كرانز مونتانا عندما قال "هذا مؤتمر نهائي، هذه هي الفرصة الأخيرة"، معربا عن استيائه من جمود المفاوضات التي ظلت تراوح مكانها طيلة 50 عاما. وأوضح الوزير التركي أن المفاوض اليوناني قد عمد إلى إطالة المناقشات كتكتيك وقال "لن نستمر في التفاوض إلى الأبد، وفي حالة استمرار الوضع على حاله، فليكن، وإلا ستنتقل المفاوضات إلى مستوى مختلف".
تشكل القوات التركية المرابطة في قبرص أكبر شبكة أمان لمواطني جمهورية شمال قبرص التركية والضمانة الوحيدة التي تحصنهم من تكرار ما تعرضوا له من أحداث مأساوية ودموية كتلك التي حدثت منذ 70 عاما. والواقع أن القرار الذي اتخذه مؤخرا برلمان القبارصة اليونانيين بإدخال ذكرى استفتاء عام 1950 (بشأن ضم الجزيرة إلى اليونان)، أو بعبارة أخرى "إنوسيس" (حركة تضم مختلف المجتمعات اليونانية المقيمة خارج اليونان والمطالبة بضم جميع الأقاليم التي يقيمون فيها إلى الدولة اليونانية)، في المناهج التربوية في جميع المدارس الحكومية القبرصية اليونانية، يبين بوضوح أن التهديد الذي كان وراء الأحداث قبل سبعين عاما، لا يزال قائما.
لهذه الأسباب، لن تتنازل تركيا أبدا عن حقوقها المعترف بها بموجب معاهدة دولية أو تتفاوض بشأنها، مثلما أوضح السيد كافوس أوغلو، معتبرا أنه من يتوقع تخلي الأتراك عن هذه الحقوق، التي تشمل "حقها في التدخل من جانب واحد في قبرص" و"أن يكون لها قوات في الجزيرة" ودور "الضامن"، يبني توقعاته على مجرد "حلم".
وتجدر الإشارة إلى أن القبارصة الأتراك لا يحتاجون وغير ملزمين بتقديم تنازلات مثل التخلي عن أراضيهم أو نقل سندات الملكية أو إجلاء الجنود الأتراك عن أراضيهم، أو قبول وضعية الأقلية أو التخلي عن حقوقهم وحرياتهم المكتسبة؛ وليسوا مجبرين أيضا على الرضوخ لضغط ومضايقة بعض المجتمعات القومية. إن الوعود الخيالية مثل الحصول على مواطنة الاتحاد الأوروبي مقابل تنازلات ليست سوى جزء من خطة إنوسيس الماكرة لإضعاف الهوية التركية وجذورها وشرفها وقيمها في الجزيرة واستيعابها تمهيدا لسلبهم حرياتهم وممتلكاتهم وأراضيهم.
في واقع الأمر، لا توجد من وجهة نظر المجتمع التركي في الجزيرة، قضية اسمها "قبرص"، فكل مشاكلهم وآلامهم ومصاعبهم انتهت فجأة في أعقاب عملية السلام في عام 1974، ومنذ ذلك الحين عاشت المجتمعات اليونانية والتركية في سلام وأخوة لعقود من الزمن، في حين بينت التجربة بوضوح أن النظام الوحيد الذي يمكن أن يحول دون العودة إلى أوضاع 70 عاما مضت، ويمكن أن يضمن السلام الدائم والاستقرار في الجزيرة، هو نموذج "الدولتين، المجتمعين".
وطالما اتفقت الأطراف المعنية على هذه المبادئ الأساسية، فليس هناك سبب يمنع من وضع ترتيبات أخرى لضمان التعايش السلمي والآمن والأخوي بين المجتمعين، في الجزيرة. وبمجرد تحقيق ذلك، يمكن للجانبين أن يلغيا بصورة متبادلة العمل بأنظمة جوازات السفر والتأشيرات، وأن يمنحا حقوق الحركة المتبادلة الحرة وأن يعززا علاقاتهما الاجتماعية والثقافية والتجارية، الأمر الذي سيكون بلا شك بمثابة خطوات كبيرة لضمان المزيد من التنمية والازدهار في الجزيرة يستفيد منه الجميع.