يحل علينا شهر رمضان، لينزِل علينا رحماته وبركاته ويمنحنا جرعة من الاطمئنان والاستراحة نحن في أمس الحاجة إليها، خاصة في عالمنا الذي أصبح ممزقًا بالحروب والنزاعات المستمرة ومقطع الأوصال بثقافة الكراهية المتفشية. وأينما حط رحاله في ربوع عالمنا الفسيح، يساعد هذا الشهر الكريم كل من بلغته نفحاته، سواء كان مسلمًا أم لا، على الاسترخاء، ويحضنه بكل طمأنينة وبمشاعر السلام والراحة. عندما ينزل علينا شهر رمضان ضيفًا، يتلاشى الإرهاق والتوتر الذي تراكم على مدى أشهر السنة الماضية، ليحل محلها إحساس غامر بالهدوء، والعودة إلى نفحات العصور الذهبية القديمة التي تقدس احترام كبار السن، والعطف على الأطفال، ويسود فيها جو من إنكار الذات والمحبة والصداقة.
يتغير عالمنا باستمرار، لكن رمضان يبقى ثابتًا مطمئنًا، وهو فترة مستقطعة تضمن سلامًا مؤكدًا وسعادة غامرة مهما كانت جسامة الصعوبات التي سبقته. وبفضل لحظات السحور وإفطاره السعيدة، إلى جانب التقاليد المتجذرة في شعوب العالم الإسلامي التي تختلف بين بلد وآخر، يبعث رمضان الحياة في الصائمين ويبارك في أعمالهم التجارية، ويلقي بنعمه في الشوارع ويُشع بنوره من كل جانب ليزيح رداء التشاؤم الكثيف الذي لفّ عالمنا الكئيب.
يبدأ رمضان في الشهر التاسع من السنة القمرية لدى المسلمين، ويُفرض صوم أيامه على المسلمين البالغين الذين يتمتعون بصحة جيدة. يبدأ يوم الصيام مع السحور، الذي يعتبر آخر وجبة يتناولها المسلمون قبل شروق الشمس. وقد يعتقد البعض أنه من الصعب على الإنسان الاستيقاظ في الليل لتناول الطعام، لكن الأمر غير ذلك بتاتًا، لأنه بمجرد أن يتذوّق الشخص متعة تناول السحور في جوف الليل، خاصة إذا كان محاطًا بصحبة ممتعة أو الاستيقاظ على روائح الأطباق الساحرة التي أعدتها الأم الحريصة، وكل ربة بيت، يصبح أمر تفضيل النوم على السحور غير ذي صلة. يفضِل معظم الناس تناول طعام خفيف، مثل إفطار الصباح أو الأرز وعصير الفواكه محلي الصنع. وكثيرًا ما يتوسل الأطفال ويثابرون في توسلهم، إلى أن يستجيب والديهم ويوقظانهم أيضًا لحضور مأدبة السحور. وقبل أن تبدأ الشمس في الشروق، يتناول الصائمون آخر لقمة لِيباشروا يومهم بالصيام، روحًا وجسدًا.
خلال شهر رمضان، يعم جوٌ من الصفاء يشجع المسلمين على محاسبة أنفسهم وإمعان النظر في سلوكياتهم وأعمالهم من أجل إصلاحها والكف عن جميع الأعمال السيئة مثل التنازع والنميمة وما شابه ذلك، ويحثهم هذا الشهر الفضيل على المزيد من التصدق على المحتاجين والتعاطف مع الفقراء، الأمر الذي تستجيب له النفوس أكثر بفضل نفحات صيام النهار كله. وأثناء فترة صوم المسلمين، يولي غير المسلمين احترامًا كبيرًا لهم، بحيث تمتنع بعض المطاعم عن تقديم المشروبات الكحولية لزبائنها. وتقوم مصالح البلديات في جميع أنحاء العالم، من نيودلهي إلى إسطنبول، ومن موسكو إلى القاهرة، ببذل المزيد من النشاط في رمضان، وتجعل الشوارع أكثر نظافة وتنظم الاحتفالات الليلية في ساحات المدينة لضمان أجواء رمضانية جميلة يستمتع بها الجميع. وتملأ المتاجر رفوفها بالأطعمة الشهية، وتعمل العائلات على ملء مخزونها من مختلف أصناف الأطعمة، معظمها يتوافر فقط خلال هذا الشهر المتميز. ومن الأعراف السائدة أن يكون الطعام في شهر رمضان لذيذًا على نحو متميز مقارنة بباقي أشهر السنة، لأن الإفطار في شهر رمضان لحظة فريدة من نوعها يجب أن تتم بألذ الأطعمة الممكنة.
ومع اقتراب المساء، تنتشر نفحات البهجة بين الناس، وبعد يوم طويل من الإمساك عن الطعام والشراب، ينطلق الصائمون في إعداد الموائد الزاخرة بالأطباق يسيل لها لعاب كافة أفراد العائلة والأصدقاء. وتنتعش الشوارع بالحركة والحياة، بفضل حركة المارة وهم يسارعون في طريقهم للالتحاق ببيوتهم، وتستنير مآذن المساجد بالأضواء الساطعة، ويصطف الناس في طوابير طويلة أمام أبواب المخابز للحصول على الخبز الرمضاني المميز. وقُبيل دقائق من انطلاق صوت المؤذن للإعلان عن لحظة الإفطار، يجلس الجميع حول الطاولة وينتظر بحماسة أذان المغرب للصلاة والإفطار. وعندما تنطلق تلك الرسالة الجميلة المألوفة لتعم أرجاء العالم، تتبعها بشائر عيد سعيد يدخل البهجة في صدور الصائمين. إن الاستمتاع بطعام لذيذ بعد يوم كامل من الإمساك عن تناول الطعام، إلى جانب الحديث الممتع والمسلي مع الأحباء، تجربة فريدة لا يمكن نسيانها. يبذل الجميع، فقراء وأغنياء، ما في وسعهم، ليقدموا إلى أهاليهم ألذ وجبات الإفطار وأكثرها فتحًا للشهية في كل ليلة من ليالي شهر رمضان، خاصة بفضل ما تجود به قلوب المؤمنين من صدقات تخفف عناء المحتاجين، وتسهل عليهم مشقة نفقات الشهر الكريم. وقد دأبت العديد من العائلات الميسورة على شراء صناديق خاصة بشهر رمضان تزخر بالضروريات لهذا الشهر لتسلمها للأسر المعوزة.
للصوم العديد من الفوائد الصحية كذلك، ومن شروط الصيام وفق نصوص القرآن، أن يتمتع الصائم بصحة جيدة. ومن المعروف أن الصيام يساعد الجسم في الظفر بقسط من الراحة لمدة شهر واحد، يتخلص خلالها من المواد السامة المتراكمة خلال الأشهر الأخرى، مما يوفر للصائم حماية فعالة ضد السمنة وارتفاع الكولسترول وارتفاع ضغط الدم وأمراض القلب والأوعية الدموية. خلال الصيام، تتقلص الفترة الزمنية التي يقضيها الجسم في عملية الهضم، وتستفيد مختلف الأعضاء من المزيد من الوقت لإصلاح نفسها، ويخلص الجسم نفسه من السموم الضارة، مما يضاعف نشاط الفرد الصائم ويجعله يشعر أكثر بالحيوية والصحة، وتنتهز المعدة الفرصة لتستريح ما لا يقل عن ست أو سبع ساعات في اليوم، ومن ثم تقلل من تدفق كمية الدم نحو المعدة، وهذا بدوره يعني أن القلب يستريح هو أيضًا ولا يضطر إلى الإجهاد وضخ الكثير من الدم إلى المعدة، ويمنحه فرصة للراحة. إن هذه الفترة تسمح للجراح الصغيرة على جدار المعدة بإصلاح نفسها، فضلًا عن التخلص من السموم المتراكمة في الخلايا الهضمية، وكل ذلك لا يشكل سوى جزء صغير من الفوائد الصحية الواسعة للصيام، لأن قائمة الفوائد الكاملة هي أطول من أن يختصرها هذا المقال.
في الختام، نأمل أن يساعدنا رمضان هذه السنة في التمتع ليس بصحة جسدية أفضل فحسب، بل وفي الارتقاء روحيًا أيضًا وأن نكون أكثر وعيًا بمحن الآخرين ومآسيهم.
https://www.sasapost.com/opinion/ramadan-is-not-a-month-like-other-months/