منذ زمن اليونان القديمة، تم تعريف السياسة باعتبارها فن الحكم وإدارة شؤون الدولة وهدفها الحقيقي كان معروفا باسم التوفيق بين المصالح المتضاربة الموجودة في المجتمع. فهي التي تتحكم بالسلطات التنفيذية التي لديها واجب المصالحة.
لضمان مثل هذه المصالحة، لا بد للسياسيين من الاستماع إلى المجتمع بشكل عام وفهم ما يريد. إنهم بحاجة إلى مراقبة ورؤية كيف إن تلبية احتياجات مجموعة معينة سيؤثر على المجموعات الأخرى، واستكشاف سبل الوصول إلى أكبر عدد ممكن من الناس. هذه مهمة صعبة وخصوصا في يومنا هذا. في الماضي، كان التعليم و الاتصالات في المجتمعات محدود، مما يعني أن المعارضة في مجتمع ما تكون في أدنى مستوياتها، ولكن اليوم، نجد إن المجتمعات متنوعة على نطاق واسع من حيث الأصول العرقية، والإيمان، والفلسفات والأفكار الأخرى. لهذا السبب بالذات، نجد اليوم صعوبة أكثر في التوفيق بين أجزاء المجتمع المختلفة ، وجعل الجميع سعداء وبناء مجتمع متماسك، وبالتالي، يتعين على الساسة للعمل أكثر من أجل المصالحة وإتقان فن السياسة لتحقيق هذا الهدف. دعونا نأخذ مثالا من تركيا. الشعب التركي، لأول مرة في تاريخ الجمهورية، سوف ينتخبون رئيسهم في اب الحالي. وغني عن القول، ان صورة المرشحين تصنع الفرق بقدر وعودهم. في الوقت الراهن، يبدو أن السباق سيكون بين مرشح حزب العدالة والتنمية، رئيس الوزراء حاليا طيب أردوغان، ومرشح للأحزاب الاشتراكية المعارضة، أكمل الدين إحسان أوغلو. وبطبيعة الحال، يتأثر الشعب التركي بشكل كبير من خلال الرسائل التي يقدمها هؤلاء المرشحين الاثنين ويراقبون بشغف تحديد الشخص الذي يعتقد انه يستطيع تلبية الصورة الرئاسية المثالية في عقولهم.
شغل السيد رجب طيب أردوغان منصب رئيس وزراء تركيا منذ عام 2003 وما زال، وهو سياسي محنك ومهم، حيث خدم تركيا بشكل كبير خلال إدارته وشكل صورة جديد لتركيا من خلال التفاهمات المختلفة والروح التركية. وهو أيضا ذو بصيرة عظيمة لعبت دورا هاما في التطور الذي تمتعت به تركيا على مدى العقد الماضي. منذ أن انتخب للمرة الأولى رئيسا للوزراء، حصل على دعم 50٪ من السكان، و من المرجح جدا أن يستمر هذا الاتجاه خلال الانتخابات الرئاسية القادمة أيضا.
ومع ذلك، أبرزت المظاهرات التي جرت في حديقة الجيزي العام الماضي الاحتجاج ومطالب النصف الآخر من الشعب التركي. بالتأكيد، لم يكن رئيس الوزراء ليغض الطرف عن تلك الطلبات؛ اذا ما استمرت الاحتجاجات في تركيا ، فإنه سيكون من الملائم بالنسبة له أن يظهر بوضوح استعداده لتلبية احتياجات النصف الآخر كذلك. في الواقع، قال انه يفعل ذلك ودائما يكرر شعاره "نحن سوف نمشي كا " 77 مليون من الإخوة والأخوات" خلال حملته الانتخابية.
لقد كسب اردوغان قلوب الملايين من المسلمين كمسلم متدين، وكمواطن تركي عادي وكنموذج أناضولي. ومع ذلك، يمكنه الاستفادة بشكل كبير إذا ما تبنى الأسلوب الفكري الذي يمجد الثقافة والفن الأوروبي، لدرجة أنه يمكن أيضا تلبية طلبات المواطنين الأتراك الذين يقيمون عادة في المناطق الحضرية والساحلية من تركيا. مثل هذه الصورة لن تكون مهينة من جانبه، كما أنها لن تصطدم مع شخصيته الدينية: على العكس من ذلك، إنها ستكون خطوة إيجابية من شأنها أن تساعد أيضا على جعل شعب الأناضول أكثر أوروبيا. إن ثقافة ونوعية أوروبا، إلى جانب كونها نموذجا يحتذى به للحرية، هو حاجة ضرورية وخاصة بالنسبة لمجتمعات الشرق الأوسط وينبغي على تركيا ريادة هذه القفزة المهمة في الشرق الأوسط. بالتأكيد، فإن الرئيس الديني الذي يحقق هذه المثالية العليا يحصل على موافقة الشعب التركي بأكمله.
أكمل الدين إحسان أوغلو من ناحية أخرى، هو اسم محترم قاد منظمة التعاون الإسلامي (منظمة المؤتمر الإسلامي) لفترة طويلة، حيث كان يشغل منصب الأمين العام، والتي جعلت منه القائد الفعلي للعالم الإسلامي نوعا ما من خلال فترة ولايته. مع سلوكه المؤثر، وأخلاقه الممتازة، ومواقفه الفكرية المشرفة، إلى جانب تعليمه ونمطه الأوروبي، ظهر أيضا كمرشح رئاسي قوي يمكن أن يكسب بسهولة قلوب الطبقة التركية الوسطى. ومع ذلك، لا يمكنه كسب هذا المنصب إلا إذا كان قريبا من السكان المحافظين في تركيا. بالتأكيد لديه مؤهلات مثيرة للإعجاب حقا والتي هي ضرورية لهذا المنصب، لكنها قد لا تكون كافية بالنسبة لتركيا.
ليكون ناجحا، ينبغي على السيد أوغلو محاكاة أساليب رئيس الوزراء أردوغان في جهوده لكسب تأييد الأمة التركية. أوغلو هو حافظ للقران و يعلمه تماما، وتعامل مع مشكلات العالم الإسلامي لسنوات. لذلك، سيكون من المناسب جدا بالنسبة له اعتماد خطاب ديني تماما كما يفعل رئيس الوزراء اردوغان ، حيث يظهر نفسه لتكون رائدة وفي كثير من الأحيان يقتبس من القرآن؛ فمن المستحيل على أي سياسي أن يكون ناجحا في تركيا اذا لم يتبنى اللهجة الدينية في خطابه،حيث نجد الآن حتى الأحزاب اليسارية في تركيا قد تغيرت مواقفهم وخطابهم وفقا لذلك. لا يمكنك قيادة تركيا إلا من خلال إظهار هذا الموقف الديني بشكل قوي على نحو لا ينضب. ومن الضروري أيضا أن يوضح السيد أوغلو تصريحاته بشأن إخواننا وأخواتنا اللاجئين السوريين.
تركيا بلد مهم حيث تتقاطع فيها ثقافات أوروبا والشرق الأوسط. والطريقة الليبرالية، الديمقراطية والحديثة الأوروبية للحياة التي من شأنها أن تساعد إلى حد كبير منطقة الشرق الأوسط ،والثقافة الإسلامية والمحبة النبيلة التي سوف تفيد أوروبا كثيرا تمر عبر تركيا. وبالتالي فإن الدولة التركية لديها مسؤوليات ليس فقط لشعبها ولكن للعالم الإسلامي بشكل عام. ونتيجة لذلك، فإن الرئيس التركي يجب أن يكون سياسيا يدرك هذا الواجب العظيم، ويجب أن تكون لديه المهارات اللازمة لتحقيق المصالحة في المنطقة المتورطة حاليا في صراع كبير. هذا ليس ممكنا فقط، ولكن أيضا بسيط جدا؛ إذا استطاع القادة أن يروا أن المجتمع يمكنه المصالحة مع نفسه رغم الاختلافات في أنماط الحياة والآراء، فإن الشعب سيحذو حذوهم، وستنتهي الصراعات.عندما يحدث ذلك، سيكون قد وصلت السياسة الهدف الحقيقي و هو 'التوفيق بين المصالح المتضاربة في المجتمع'.