هارون يحيى
كانت ليلة الخامس عشر من يوليو ليلة عظيمة، حيث سطرت الأمة التركية تاريخًا "للديمقراطية والبطولة". بشجاعة الأمة التركية التي واجهت الموت تم إحباط الانقلاب العسكري الذي كان يستهدف انتزاع السلطة من الحكومة.
لم يدرك المتآمرون أن هذه لم تعد "تركيا القديمة". بحُرية وديمقراطية تضاهي أوروبا لم تعد تركيا كما كانت منذ عقود، ولن يقبل الأتراك أي تهديد لديمقراطيتهم أو حريتهم.
بدأت تلك الليلة الطويلة في الخامس عشر من يوليو بتطورات غير مفهومة، كانت الدبابات في الشوارع، وقام الجنود بالسيطرة على الميادين؛ كان الوضع معقدًا تمامًا. كانت الساعة العاشرة مساءً عندما تم إغلاق الجسرين اللذين يربطان آسيا وأوروبا في إسطنبول بالدبابات، وفي الوقت نفسه بدأت وكالات الأنباء تفيد بأن بعض الطائرات تحلق على ارتفاع منخفض فوق العاصمة أنقرة.
في حوالي الساعة الحادية عشر مساءً أعلن رئيس الوزراء "يلدريم" للأمة عن وجود محاولة انقلاب، في تمام الحادية عشرة والنصف إلا خمس دقائق أجبر الانقلابيون مذيعة قناة TRT الرسمية على إذاعة البيان، وإعلان حظر التجول في البلاد.
في الساعة الثانية عشرة والثلث بعد منتصف الليل خطب الرئيس أردوغان في الأمة من خلال إحدى القنوات التلفزيونية، ودعا الشعب لمقاومة الانقلابيين في الشوارع. في هذه الأثناء أعلن قادة المعارضة في البرلمان وبعض قادة الجيش وقوفهم ضد الانقلاب مهما كانت الظروف، حتى أن أشرس المحطات التلفزيونية المعارضة للحكومة أخذت موقفًا مضادًا للانقلاب، توحدت الأمة وأبدت موقفًا موحدًا.
بدأت الوزارة الدينية في تركيا في إقامة الصلوات في جميع أنحاء البلاد، وتحولت هذه الصلوات إلى رسالة حشد لأولئك الذين خرجوا إلى الشوارع. وعلى القنوات التليفزيونية كانت هناك صور الناس في غزة وسراييفو وفي العديد من الأماكن في أوروبا خرجوا في الشوارع من أجل تركيا، وفي بلغاريا سُمعت أيضًا الصلوات في المساجد، بينما في قطر تم إشعال المشاعل بألوان العلم التركي، ومن لبنان إلى الصومال وأذربيجان والولايات المتحدة الأمريكية وفي العديد من الدول الأخرى، كانت تقام الصلوات من أجل تركيا، وكانت جميع هذه الوقائع نتاجًا لحماس ونخوة وإرادة الشعب.
وابتداءً من تلك اللحظة استخدم الشعب التركي بما في ذلك الأطفال وكبار السن أجسادهم دروعًا ضد الدبابات والمروحيات العسكرية وقناصة الانقلابيين بالتكبيرات وفي أيديهم الأعلام التركية. في مواجهة الانقلاب المسلح لم يحمل الناس سوى أعلامًا في أيديهم، وإيمانًا في قلوبهم. التحرك ضد الشعب محكوم عليه حتمًا بالفشل.
في تلك الليلة أبدت جميع المستويات في الدولة - وخاصة الشرطة والجنود الوطنيون - نضالًا بطوليًا. عقد البرلمان جلسته في ظل ظروف استثنائية على الرغم من التهديدات المستمرة، وأثناء خطب الإدانة من النواب تم قصف البرلمان بالقنابل عدة مرات، إلا أن هذا لم يُثنِ أحدًا. قدم السياسيون الوحدة وتحدوا هذا الانقلاب غير الشرعي.
لم تنم تركيا في تلك الليلة، لم يكن الأمر يتعلق بالسياسة، رأى الجميع أن هذا وقت الدفاع عن بلدنا وعن ديمقراطيتنا، وهذه حقيقة من شأنها تعزيز أواصر الأخوة القائمة. لم يخف ولم يستسلم أحد، ولم يفكر أحدٌ في الغد، ولكنهم آثروا صده دون خوف، باستثناء بعض الأحداث المؤسفة فقد تصرف الناس بفطرتهم السليمة وبالمحبة والرحمة. انتهت تلك الليلة بـ 240 شهيد، 173 منهم من المدنيين، و62 من الشرطة، وخمسة من الجنود الذين تصدوا لمحاولة الانقلاب. ومع ذلك فقد تم إحباط محاولة الانقلاب، رحم الله شهداء الديمقراطية.
الأسباب الحقيقية وراء الانقلاب
كانت تركيا مثل بلاد الشرق الأوسط مرتعًا للتدخلات الأجنبية والمحلية، وتتقيد بمخططات مرسومة منذ مائة وخمسين عامًا.
أصحاب تلك المخططات لا يريدون أن تكون تركيا قوية ومستقرة، ولا يريدون أن تكون لتركيا علاقات دافئة مع الإخوة والأخوات المسلمين في الشرق الأوسط، هذه الأوساط المظلمة تزعجها حقيقة أننا نقوم ببناء أواصر المحبة مع إخواننا، إنهم لا يرغبون في رؤية المسلمين يتعاونون من أجل إنهاء الحروب في الشرق الأوسط، ويسعون لإضعاف تركيا عن طريق الانقلابات أو مخططات الاحتلال والحرب الأهلية.
المقالات التي نشرت في السنوات الأخيرة وخاصة في وسائل الإعلام البريطانية والأمريكية والتي تروج لانقلاب عسكري في تركيا ليست سوى أحد الأدلة على أن هذه المخططات لا زالت قائمة.
أعطينا رسالة مهمة للأطراف التي تقف خلف الانقلاب
أثبتنا مرة أخرى بمقاومتنا الأسطورية الأخيرة أننا لن نسمح أبدًا بأية مؤامرات أو مخططات لتقسيم تركيا، وأن الشعب التركي بأسره سوف يقاتل من جديد لصد أية محاولة للانقلاب.
ظهر جليًا مرة أخرى أن الأولوية القصوى للشعب التركي هي حماية بلدهم، وأنهم مطمئنون بيقينهم بالله، وسوف يناضلون ببسالة لدفع أي خطر عن بلادنا، سواء كان ذلك انقلابًا أو احتلالًا.
وبعد محاولة الانقلاب الفاشلة قامت الأحزاب السياسية على الرغم مما بينها من منافسة بتنظيم مسيرات مشتركة، أعطى الأتراك للعالم بأسره درسًا عظيمًا في الشجاعة والشرف، ونال ولاؤهم ونبلهم وفطرتهم السليمة تقدير الجميع، فقد بات واضحًا وضوح الشمس أن لدينا شبابًا غاية في الوعي والشجاعة والوفاء والإخلاص.
بفضل من الله ستظل تركيا مثالًا للأخوة والإيثار والتقدم، ونموذجًا للمحبة والرحمة.
http://www.raya.com/news/pages/caea8ab3-b608-4778-b602-37f421dd05ea