تعتبر الدعاية إحدى الممارسات التي تحدث في السياسة لتعويد المجتمعات على مبادئ يستحيل عليهم أن يعتادوا عليها بدون هذه الدعاية. وقد شاع استخدامها في الحرب العالمية الثانية.
تُستخدم الدعاية في هذه الأيام لإعادة تشكيل العقل اللاواعي باستخدام أساليب نفسية متنوّعة. فيمكن أن تُصمَم أي ممارسة عبثية وغير أخلاقية أو أي فكرة يُستهدف فرضها على المجتمع، كي تبدو بريئة ومنطقية.
فيما يعتبر مصطلح «الأضرار التبعية» مثالاً واضحاً على مثل هذه الدعاية. فقد سمعنا هذا المصطلح الذي يشيع استخدامه ويُقدَّم باعتباره مبدأ لوصف آلاف المدنيين الأبرياء الذين يُقتلون خلال القصف.
كما أن الاستخدام اللغوي والابتداع لمصطلح «الأضرار التبعية» يبدو علمياً وتقنياً إلى درجة ما. وعندما يحجز مثل هذا المصطلح مكانه بطريقة ما بين المصطلحات العلمية، فإنه يُشرعَن في منتهى الغرابة. بعبارة أخرى، يمكن أن يُقتَل أحد المدنيين الأبرياء تماماً عن طريق طائرة قاذفة للقنابل من دون أن يُحاسَب أي شخص. علينا أن نطرح التساؤل عند هذه النقطة، هل من الممكن للأشخاص الذين نظموا استخدام هذا المصطلح وسمحوا به باعتباره شيئاً عادياً وشرعياً، أن يوافقوا على تمريره إن كان قرناؤهم أو أبناؤهم تأثروا بين من تأثروا بهذه الأضرار التبعية؟
وفقاً لبحث أجراه مشروع «إحصاء الجثث بالعراق»، بلغ عدد الأشخاص الذين فقدوا أرواحهم، خلال الفترة من مارس 2003 وحتى مارس 2017، بسبب القنابل أو غارات الطائرات بدون طيار فقط 1972730 شخصاً. كما أن الأرقام التي كُشف عنها النقاب من قِبل مشروع «إحصاء الجثث بالعراق» لعدد القتلى الذين قضوا خلال الفترة الواقعة بين 20 مارس 2003 و14 مارس 2013 تبدو مرعبة. فقد وصل أعداد الضحايا في العراق خلال هذه الفترة 174 ألفاً، من بينهم 39900 ألف مقاتل فقط. مما يعني أن نسبة الضحايا من بين صفوف المدنيين بلغت 77%.
وفي سوريا، أشار المركز السوري لبحوث السياسات إلى أن 470 ألف شخص فقدوا حياتهم بسبب الحرب الأهلية التي بدأت في مارس 2011. ووفقاً لتقرير نشره المرصد السوري لحقوق الإنسان في مارس 2017، بلغ عدد الأطفال الذين قضوا خلال الصراع 17411 طفلاً، كما بلغت خسائر الأرواح من النساء 10847 امرأةً.
من المؤكد أن مناطق الصراع ليست مقصورة على العراق وسوريا وحسب: باكستان، واليمن، وليبيا، والصومال، وكثير من مناطق العالم تواجه هي الأخرى مشاهد مروّعة من الضحايا الذين يسقطون من بين صفوف المدنيين. ولا يُنظر إلى آلاف الأبرياء الذين قتلوا سوى باعتبارهم أرقاماً وإحصائيات من جملة البيانات التي تجمعها المؤسسات البحثية.
توقفت مؤخراً العمليات في الموصل بعد أن وصلت خسائر المدنيين لأكثر من 200 ألف شخص. فالتصريح الذي أصدره الجنرال الأمريكي صاحب أعلى سلطة من بين القوات الأمريكية في العراق، والذي قال فيه «إننا على الأرجح مسؤولون عن الضحايا المدنيين في الموصل»، يعتبر اعترافاً يجب أن يُنظر إليه بجدية في هذه القضية. ويبدو أن ثمة مشكلة في النظام نفسه، وليس في التعبيرات الاصطلاحية.
ذكر جورج أورويل في مقال كتبه عام 1946 «إن الكتابات والخطابات السياسية تضخم الدفاع عما لا يمكن الدفاع عنه، (ولذا) فإن اللغة السياسية يجب أن تتكون بدرجة كبيرة من التورية، والمصادرة على المطلوب، والغموض الغائم». لا يعتبر التفسير الذي قدمه أورويل تعريفاً مجرداً، لكنه يُستخدم لـ»تبرير» حالات الموت التي حلّت خلال السنوات الأخيرة.
ليست هذه هي القضية بالنسبة إلينا.
فكل الأشخاص الذين تضمنتهم قائمة «الأضرار التبعية» يمتلكون عائلةً وأصدقاءً وأحلاماً وخططاً حياتية. وليس لأي شخص سلطة تخوّل إليه سلب حقهم في الحياة لأي سبب.
لا تعتبر الحرب، تحت أي ظرف، مبدأً يتفق مع مبادئ الجنس البشري. وعلى عكس مزاعم بعض أنصار الجدلية المادية، فإنها ليست ضرورية وليس تقدمية. ليست الحرب سوى دمار. إنها تقتل البشرية والضمير والجمال والمحبة وسعادة الحياة. إنها تجلب الفقر والجوع والخوف والقلق والكوارث. إنها تخلق أناساً تشكلهم الكراهية والغضب. فالروح البشرية لم تُخلَق من أجل الحرب.
لذا فمن الضروري أن نؤمن بأن الحرب مبدأ ظالم وغير منطقي، بدلاً من صياغة المصطلحات التي ستخفف من وطأة الآثار المروعة للحرب. يوجد طرق محددة أكثر نجاعة ومنطقية لتغيير البشر وإيقاف العنف خيرٌ من استخدام القنابل. وأيما كُنتم، فإن العقل البشري خُلق بطريقة لا يمكن معها مقاومة الحقيقة. وبناء عليه، يكفي أن نظهر الحقيقة بطريقة علمية. وإن أرادت البلاد السلام حقاً، فإنه يبدأ من هذه المرحلة تماماً.
http://www.raya.com/news/pages/39e805c6-93b5-4b3c-adb0-ce183aa08e36