لقد مضى ما يقرب من 50 عاما على جلاء القوى الاستعمارية من دول أفريقيا، ولم تعد بلدان هذه القارة اليوم تواجه تهديدات عسكرية من جانب الدول الإمبريالية، ولم يعد يتحكم فيها المفروضون عليها بتعيين رسمي من القوى الدولية، لكن مع ذلك، من الصعب جدا، إن لم يكن مستحيلا، القول إن العديد من البلدان الأفريقية تتمتع فعلا بالاستقلالية الكاملة أو إنه بوسعها استغلال مواردها الطبيعية الوفيرة بكفاءة كافية لضمان تلبية الحد الأدنى من احتياجات مواطنيها، وكل المؤشرات تبين أن أفريقيا لا تزال إلى يومنا هذا تعاني للأسف من الفقر المدقع، بعد انعتاقها من حقبة الاستعمار وولوجها عهد الاستقلال.
هل يمكن القول إن تخلي بلدان الاستعمار عن علاقاتها السياسية الرسمية مع مستعمراتها، أي إنهائها نظام الاستغلال المباشر ولو ظاهريا، قد أحدث تغييرا فعليا في الاستراتيجية التي تستدعيها الظروف الراهنة؟
إن الجواب على هذا السؤال، نجده جليا في ثنايا تقرير أُعد بتضافر الجهود، المبذولة بين منظمة العمل المعنية بالصحة ومكافحة الفقر في لندن والعديد من المنظمات غير الحكومية الأخرى. (1) وقد أجرى هذا التقرير تقديرا إجماليا لتدفق الموارد داخل أفريقيا وخارجها، وانتهى إلى النتيجة التالية: تسجل أفريقيا سنويا خسارة قدرها 192 مليار جنيه استرليني، في حين لم تتجاوز التدفقات التي تتلقاها القارة كل عام 134 مليار جنيه استرليني، مما يدل على خسارة أفريقيا نحو 58 مليار جنيه استرليني كل عام. (2)
والمثير للاهتمام هنا هو أن العديد من البلدان الثرية تقدم في كل عام كميات كبيرة من المعونة الرسمية لضمان تنمية أفريقيا، ومع ذلك لا تزال القارة تواجه الفقر - بل وتعاني من المجاعة في بعض الأجزاء منها. وفي مقالة تحت عنوان "المعونة إلى أفريقيا: تبرعات من الغرب تغطي على "نهب 60 مليار دولار" من القارة" بتاريخ 15 يونيو 2014، ذكرت صحيفة الجارديان البريطانية السبب في ذلك، عبرت عنه تحت عنوان "المملكة المتحدة والحكومات الغنية الأخرى تحتفل بجود كرمها على دول أفريقيا، وتقوم في الوقت نفسه بمساعدة شركاتها على استنزاف موارد هذه القارة". (3)
عمليا، يستخدم جزء من المساعدات الدولية الموجهة إلى أفريقيا كقناع للتغطية عن مخطط لنهب ثروات القارة بدلا من مساعدتها على التنمية، وتحاول معظم البلدان التي تقدم مساعدات لأفريقيا تعزيز صورتها وتلميعها باعتبارها "المنقذ البطولي للفقراء"، مثلما أورده مقال آخر صادر عن صحيفة الجارديان. وفي المقال نفسه، يشير الكاتب أيضا إلى أن مبالغ طائلة تفوق ما تتلقاها القارة من مساعدات، تعود من أفريقيا نحو ذات الدول، ويخلص المقال إلى أن "أفريقيا هي التي تدعمنا، وليس العكس". (4)
من جهة أخرى تلعب ملاذات التهرب الضريبي في الاقتصاد العالمي هي أيضا دورا حاسما في نهب أصول أموال البلدان الأفريقية، وهذه الملاذات إما تضمن الإعفاء التام من دفع الضرائب أو أنها تسمح بمعدلات ضرائب منخفضة، بحيث تمنح أصحاب هذه الأموال المهربة فرصة للمنافسة غير المشروعة مع البلدان الأخرى، (5) وفي هذه البلدان، تستخدم الحسابات الخارجية في العديد من المساعي غير القانونية، على غرار غسيل الأموال، وكسر العقوبات المالية، والتهرب الضريبي والرشوة. (6)
ويتألف جزء كبير من تلك البلدان التي يطلق عليها "ملاذات ضريبية" من بلدان استعمارية سابقة، وتُوَظف هذه البلدان كشبكة دولية لتسهل تحويل الأموال من أفريقيا، ومن نافلة القول أن الجميع يعرف كيف تعمل هذه الشبكة، لدرجة أن ممارسات هذه الدول قد تناولتها على نطاق واسع أطروحة جامعية، عنوانها "غسيل الأموال". (7)
قد طرح زعيم حزب العمل البريطاني جيريمي كوربين هذه القضية أمام البرلمان البريطاني، مما فجر فضيحة حول دور أقاليم بريطانيا في الخارج - والبلدان التي تقع تحت التاج البريطاني - واستخدامها كملاذات آمنة للتهرب من دفع الضرائب. (8)
تجني مجموعات معينة في البلدان الإمبريالية السابقة، من خلال شركاتها التي تتخذ من أفريقيا مقرا لها، أرباحا غير مشروعة في أفريقيا وأجزاء أخرى كثيرة من العالم، وتضفي هذه الشركات الشرعية على هذه الأرباح مستفيدة من النظام المصرفي الخارجي، وبهذه الطرق والحيل، يقوم هؤلاء الإمبرياليون السابقون بجمع مبالغ أكثر بكثير مما يقدمونه من مساعدات مالية ضئيلة لأفريقيا، وبسبب سيطرة بعض مراكز استغلال الأموال، يستمر استغلال خيرات القارة الأفريقية الغنية بالمعادن وثرواتها الزراعية، وتستمر معاناة شعوب القارة من المجاعة والحرمان.
لقد حان الوقت للكشف عن هذه الآلية الظالمة بحق القارة وشعوبها واتخاذ تدابير احتياطية كفيلة بمنع استمرار هذه الممارسة، ولكي تتمكن الإدارات الصادقة في مختلف البلدان، والشعوب المحبة للعدل والمنظمات غير الحكومية المنصفة، من القيام بذلك، يجب أن تسمع أصواتها عاليا، ولا ينبغي للشعوب الوقوع في خداع من يدعي إمدادهم بالمساعدة المالية الوهمية، بل يجب إيلاء اهتمام أكبر والنظر بعمق للمشكلة الكامنة، أي ما يتسبب فيه نظام الاستغلال المالي الأكثر قسوة المفروض على أفريقيا من أضرار. ومن المؤكد أن موقفا علنيا قويا ضد مثل هذه الممارسات الظالمة سيحقق نتائج ملموسة ويجلب في نهاية المطاف السلام والازدهار لشعوب أفريقيا التي عانت طويلا.