إن التطور العلمي والتكنولوجي في عصرنا الحديث، يفتح للبشرية آفاقًا جديدةً كل يوم، فقد أصبح من الممكن حفر أنفاق في الجبال الضخمة لتسيير القطارات السريعة، كما أصبح من الممكن شق أنفاق تحت البحر لربط قارتين ببعضهما بعضا، كل ذلك كان من الصعب مجرد تخيل حدوثه منذ قرن من الزمن.
ومع ذلك، لا تزال البشرية عاجزة بشكل كبير أمام الكوارث الطبيعية، على الرغم من القدرات التكنولوجية المتطورة.
تسبب إعصار هارفي الذي ضرب الولايات المتحدة الأمريكية في نهاية شهر أغسطس/ آب، في دمار هائل. فقد بلغت كميات الأمطار المتساقطة أعلى مستوى لها على الإطلاق، ما أدى إلى تعطيل كثير من الخدمات الأساسية، كوسائل المواصلات، والمرافق الصحية، والمحال التجارية، وجمع القمامة. حاول بعض قاطني المناطق التي ضربها الإعصار الفرار بحياتهم بمغادرة تلك المناطق. لم يكد يهدأ هذا الإعصار، وخلال كتابة هذه السطور، حتى ضرب إعصار إرما ولاية فلوريدا الأمريكية بعده مباشرةً، والذي صُنف “أعتى إعصار أطلسي” في التاريخ.
بعد الإعصار، كثير من المواطنين الأمريكيين أظهروا سلوكًا يُحتذى به، وفق حدود إمكانياتهم الخاصة، في تضامنهم مع ضحايا الكارثة. فقد خاطر بعضهم بحياته من خلال استخدام قواربهم الخاصة في إنقاذ الأشخاص الذين حاصرتهم الفيضانات، كما شارك بعض الأمريكيين في السلاسل البشرية التي شكلت للمساعدة في عمليات الإنقاذ والنقل، فقد تم نقل الأشخاص الذين حاصرتهم المياه داخل سياراتهم إلى أماكن أكثر أمانًا عن طريق تلك السلاسل البشرية.
تمكن كثير من الأطفال من الوصول إلى شاحنات الإنقاذ بفضل هذه السلاسل البشرية، وقد طُبعت في أذهان كثير من الناس تلك الصورة التي يظهر فيها أحد أعضاء فريق الإنقاذ SWAT في هيوستن، وهو يحمل أما تحتضن طفلها بين ذراعيها بعيدًا عن الماء.
ليس هؤلاء فقط من شاركوا في عمليات الإنقاذ بأنفسهم، إذ لا يجب أن ننسى أيضًا الموظفين الذين كانوا يتلقون نداءات الاستغاثة على خط الطوارئ 911، وعمال الوجبات السريعة الذين قدموا الطعام لضحايا الكارثة، وأولئك الذين حولوا متاجرهم إلى مآوى للمنكوبين، وغيرهم ممن ساعدوا في حملات الإغاثة.
في ظل هذا التعاون، لم يكن هناك تمييز بين أبيض وأسود، أو جمهوري وديمقراطي. ففي كثير من الأماكن، قدم أصحاب المذهب الكاثوليكي العون للبروتستانت، والبروتستانت لليهود، واليهود للمسلمين. وقد برزت جهود المساعدة التي قدمتها المجمعات الإسلامية على وجه الخصوص بعد هذه الكارثة، إذ قدمت كثير من المجمعات الإسلامية مساعدات للمسيحيين واليهود المتضررين من الإعصار عن طريق نقلهم بالقوارب، وتقديم المعونات الغذائية وغيرها من شتى وسائل المساعدة، فضلًا عن فتح مساجد هيوستن أبوابها لاستقبال المتضررين الوافدين من تكساس، كما قررت المساجد أيضًا أداء الصلوات في موقف السيارات، لإفساح مساحة أكبر لضحايا الإعصار. لم يسأل أحد الآخر عن معتقده أو رأيه السياسي قبل تقديم المساعدة له.
وعلى الرغم من ذلك، وقبل شهور قليلة مضت، قامت بعض الجماعات بأعمال عنف في الشوارع لأسباب سياسية مختلفة، ما أعطى للعالم صورة مختلفة تمامًا. وفقًا لهذه الصورة، زادت حدة التمييز والاستقطاب في الولايات المتحدة بشكل كبير، ما دعى بعض وسائل الإعلام العالمية إلى كتابة بعض التقارير الصحفية تحت عنوان “الولايات المتحدة تنجر إلى صراع داخلي”. ولكن، بعد بروز صورة الوحدة والتضامن الذي أظهره الأمريكيون بعد إعصار هارفي، تلاشت صورة “اشتباكات الأمريكيين في الشوارع” إلى حد كبير.
على الرغم من كل الدمار الذي تسببه الكوارث الطبيعية، إلا أنها تذكر الناس بأنهم لا يزالون يحتفظون بتلك القيم الإنسانية، بصرف النظر عن ألوانهم، ولغاتهم، ومعتقداتهم، وأنهم يستطيعون التوحد تحت أي ظروف. نأمل ألا تواجه الولايات المتحدة ولا أي بقعة من بقاع العالم أيا من هذه الكوارث المدمرة، ومع ذلك، يجب ألا ننسى الدرس الذي تعلمته البشرية من تلك الأحداث المأساوية، فالأشخاص القادرون على التعاون معًا بشكل مثالي في ظل الظروف الصعبة،.