عاش الشعبان التركي واليوناني جنبًا إلى جنب فوق نفس الأرض لقرون من الزمان، فقد اختلطا فيما بينهما وتوثقت علاقاتهما وارتبطا ببعضهما من خلال عديد من الروابط الثقافية والتاريخية. وكان من الواجب أن تصبح النتيجة الطبيعية لهذا التعايش وجود علاقة وطيدة وأخوة وصداقة بين الشعبين، وهو الحال في العديد من الأمثلة المشابهة حول العالم. على الرغم من هذا، سارت الأمور على النقيض من ذلك لهذين البلدين.
يكشف تحليل مُعمق عن أن الأسباب وراء هذه النتيجة الغريبة يكمن في دوائر محددة لم تضع في عين الاعتبار بناء هذه الصداقة والتحالف كي تضمن خدمة مصالحها وخططها. وقد صار اعتياديًا لهذه الدوائر المُشار إليها أن تتدخل وتعيد السيناريوهات الكارثية متى ظهرت في الأفق فرصةٌ لظهور صداقة بين تركيا واليونان. وقد استغلت نفس الدوائر كل فرصة مواتية لزرع بذور الشقاق بين البلدين، كما افتعلت الأزمات والصراعات لخدمة هذه الغاية، بل إنها دبرت الحيل كي يكون البلدان على حافة الحرب لأسباب تافهة وغير منطقية على الإطلاق.
تسبب السيناريو القبيح، المدعوم بدعاية مدروسة للغاية وتقنيات استفزازية على مر التاريخ منذ الحرب العالمية الأولى، في اختلاق المشاكل بين البلدين. ولم يُسمح لتركيا واليونان ببناء الصداقة والتحالف والتعاون فيما بينهما، وهو ما سيفيد بكل تأكيد كلا البلدين. ونتيجة للذرائع المتعددة، مُنع هذا التحالف من أن يؤتي ثماره رغم قدرته بكل سهولة في حال نجاحه على ضمان السلام والاستقرار والرفاه في المنطقة.
تعتبر «أزمة كارداك»، التي تسبب التوتر بين البلدين بين الحين والآخر، أحد هذه الأسباب المُختلقة التي تُستخدم لمنع الصداقة بين اليونان وتركيا. وقد اندلعت هذه الأزمة لأول مرة عندما جنحت سفينة تركية إلى شواطئ جزر كارداك في بحر إيجة عام 1996، تصاعدت حدة الأزمة بعد خلاف نشب بين أطقم الإنقاذ اليونانية والتركية وكان البلدان على حافة الحرب، تدخلت الولايات المتحدة وحلف الناتو وساعدا في التوصل إلى حلٍ لهذه الأزمة.
واندلعت حالة التوتر مرة أخرى بعد 22 عامًا في 28 يناير/ كانون الثاني بين تركيا واليونان بسبب جزر كارداك، فقد منع خفر السواحل التركي وزير الدفاع اليوناني بانوس كامينوس من الاقتراب إلى جزر كارداك بزورق حربي من أجل وضع إكليل على الجزيرة. وبعد التحذيرات، غادر الوفد اليوناني المياه التركية قبل أن تتصاعد الأزمة أكثر من ذلك.
ويبدو بكل وضوح أنه حتى الجزر الصغيرة يمكن أن تُستخدم لإثارة جيشين ضد بعضهما، كما يمكن أن يستخدمها دعاة الحرب باعتبارها صيحات لها. ومن الواضح أن تركيا واليونان لن تجني أي منهما أي شيء من تجدد مثل هذه الأزمات. وعلى النقيض من هذا، يتضح أن تعريض هذين البلدين للخطر من خلال التشجيع على مثل هذه الأزمة لن يفعل شيئًا سوى الإضرار بهما. ومرة أخرى، سيكون الجانب الوحيد المستفيد من الأزمة الناتجة مقصورًا على الأجهزة السرية التي تعتبر أن مثل هذا التحالف غير ملائم لأهدافها.
وقد دُبرت نفس المؤامرات ضد التحالف التركي الروسي، غير أن النهج المعقول لكلا القائدين نجح في إحباط هذه المؤامرة، بل إنه حقق نتائج عكسية. فمن الأهمية بمكان أن تتحرك تركيا واليونان بحذر وحس سليم كي تحبط هذه المؤامرات، وأن تكون كل منهما حذرة من الدوائر الاستفزازية، فضلًا عن أن تحديد هوية مثل هذه العوامل الاستفزازية التي استشرت في إدارة ودواوين وإعلام كلا البلدين ونبذها، سيشكل خطوة أولية مهمة.
من المهم أيضًا لكلا البلدين أن يحافظا على الاحترام المتبادل بينهما، وعلى السياسات المعقولة حسنة النية لمواجهة الاستفزازات التي تستهدف إعاقة الصداقة والتحالف بين تركيا واليونان. وفي هذا السياق، يمكن اعتبار زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى اليونان في 2017، التي كانت أولى الزيارات الرئاسية منذ 65 عامًا، بداية إيجابية للغاية من أجل تحسين العلاقات. ولا شك أن التحالف والصداقة واتفاقات التعاون التي تتم في جوانب عديدة ستشكل احتياطات قوية ضد المؤامرات التي تستهدف تأليب البلدين على بعضهما. ومن الأهمية بمكان أن يتجاهل البلدان الاستفزازات التي تقودها مجموعات محددة ذات مصلحة في ذلك، وأن يركزا بدلًا من هذا على التقارب، إذ يشبه كل بلد منهما الآخر تشابهًا كبيرًا في صداقاته وعاداته وتقاليده وأساليب حياته، فقد تعايشا لقرون من الزمان ولا يزالان يفعلان ذلك حتى الآن، ولن يسبب الانهيار في الأوقات التي تحمل الصداقات فيها ضرورة قصوى سوى الإضرار الشديد بكلا البلدين وبالمنطقة عمومًا. وفي هذه الأوقات الخاصة التي تكثر فيها الحروب والأزمات الاقتصادية في العالم، من المهم أن نحوّل السلبية إلى إيجابية وأن نعيد إحياء صداقة يصل عمرها إلى 500 عام.