«خادم القوم سيّدهم»: حديث شريف.. كان النبي محمد عليه الصلاة والسلام إنسانا عظيما، ولد وترعرع ونشأ في بيئة قاسية، تميزت بها منطقة الجزيرة العربية القديمة، حيث انتشر العنف وسفك الدماء، باعتبار ذلك سلوكا شائعا وقاعدة معمولا بها بين الأقوام، إلى أن أشرق نوره عليه الصلاة والسلام كرمز من رموز النزاهة الخالصة واللطف والشرف وسمو النفس، فارتقت شخصيته النبيلة وبلغ صفاه درجة عالية بحيث استحق عليها اسم الأمين (كان محل ثقة واعتراف البعيد قبل الصديق)، وذلك حتى قبل أن يصبح نبيا.

وكان أيضا قائدا عظيما، سمحت له قدرته المتميزة أن يجتاز الأوضاع الصعبة والمواقف الحرجة، بفضل تمسكه بتوجيهات القرآن الكريم بالإضافة إلى ما تميز به من عبقرية فذة، مكنته من التحرر من براثن مجتمع متعطش للدماء -مجتمع خطير وعازم على النيل منه- والخروج سالما منتصرا، مؤثرا السير على درب السلام وانتهاج سبيل الدبلوماسية.

وعندما بدأ ينزل عليه الوحي، وباشر عمله في نشر رسالة الله السامية بين الناس، حاصره قومه وتعرض لأذاهم وعدائهم الشرس. وقد وجد الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه مجبرا على تحدي هيمنة قادة قومه بمفرده، على هذه الأرض التي يغيب فيها حكم القانون، ويسودها جبروت القوة والعدوان، وتطغى فيها مشاعر الفخر والغطرسة، فكان من الطبيعي أن يكلفه هذا الموقف الشجاع ردّا قاسيا من قومه؛ ورغم ذلك، لم تثنه قساوة وغلظة تصرفاتهم عن مواصلة نشر رسالته.

ومع مرور السنوات وزيادة عدد أتباعه، ازدادت أيضا حدة الاضطهاد الموجه ضد الرسول الكريم وأتباعه، وعندما بلغت هذه الهجمات العنيفة مستويات غير قابلة للتحمل، بعث أصحابه الأكثر عرضة للإيذاء نظرا لوضعهم الاجتماعي بين قومهم، إلى الحبشة (إثيوبيا الحالية) التي كانت مملكة مسيحية في ذلك الوقت، لضمان سلامتهم، ثم لحقهم غيرهم من الصحابة، وظل الرسول في مكة إلى غاية تأكده من مغادرة الجميع، موليا سلامة قومه أهمية فوق سلامته الشخصية. وعندما هاجر إلى المدينة المنورة، كانت المدينة غارقة في صراعات وشجار مستمر بين القبائل، كل قبيلة من القبائل تسعى إلى تكريس هيمنتها على مراكز النفوذ، وقد نجح الرسول صلى الله عليه وسلم في التوسط بين هذه المجموعات، المشكّلة من يهود ومسلمين ووثنيين، ووضع لهم معاهدة تعتبر الأولى من نوعها في العالم، وبفضل هذه المعاهدة، قام بالأساس ببناء أول مجتمع تعددي في العالم، ينعم في ظله جميع المواطنين بالمساواة، بما في ذلك المساواة في الحقوق، وقد قبلت جميع القبائل تلك المعاهدة ورضيت بالعيش في ظل سيادة القانون. يمكن فهم بُعد وأهمية إنجازات الرسول (صلى الله عليه وسلم) بشكل أفضل في ضوء الصراعات المستمرة المنتشرة اليوم بين المجموعات المختلفة، وكيف تعذر حلها، رغم المحاولات العديدة، وما بذله القادة والمنظمات الدولية من جهود لتحقيق ذلك. ومع مرور السنين، ازداد عدد المسلمين وأصبح الرسول محمد عليه الصلاة والسلام أحد أقوى الرجال في الجزيرة العربية، ورغم ما بلغه من نفوذ وشأن، ظل محل دهشة وتعجب الكثير، بالنظر إلى استمرار تواضعه ونبل تصرفاته، وكمثال على هذا السلوك النبيل، كان باستطاعة أي شخص -مسلما كان أو مسيحيا أو يهوديا، عبدا أو زعيم قبيلة- الاقتراب منه بسهولة، ودخول مسجده مباشرة والتحدث معه.كان في يوم من الأيام، ينتظر ضيوفا يهودا وبمجرد وصولهم، نزع رداءه وبسطه على الأرض لكي يجلسوا عليه. ولم يكن هذا الاحترام منه والعطف الذي أظهره نبي الإسلام دليلا مدهشا على صفاء شخصيته فحسب، بل دليلا أيضا على تواضعه غير المحدود، صفة حري بأن يتحلى بها جميع القادة الجيدين، وقد وجه الرسول الكريم أيضا رسالة قوية إلى جميع المسلمين، يحثهم فيها على احترام أهل الكتاب ومحبتهم. وقد ساهمت شخصيته اللطيفة طوال حياته في تعاطف الناس معه والالتحاق بدعوته، وكان لحبه العميق واحترامه الفائق للمرأة وللأطفال وللحيوانات أثر عميق في المجتمع الذي لم يكن لديه أي مفاهيم من هذا القبيل في ذلك الحين.بعد ست سنوات قضاها في المدينة المنورة، أراد الرسول صلى الله عليه وسلم العودة إلى مكة المكرمة من أجل الحج إلى بيت الله الحرام، ومعنى ذلك أنه يتعين عليه دخولها من دون سلاح، لأنه لا يسمح للحجاج بحمل السلاح، أي أنه بعبارة أخرى، سيغامر بالدخول إلى مكة وسط أعدائه أعزل، مسلحا فقط بثقته بالله. ولما أوقفه فرسان قرشيون ومنعوه هو وأصحابه من الدخول إلى مكة المكرمة، اختار النبي محمد انتهاج الدبلوماسية والسلام. ورغم الاتفاق بينهما، خرق أهل قريش المعاهدة، مما دفع النبي الكريم  إلى حشد جيش قوامه 10 آلاف فرد، وكان يتوقع أهل مكة أن يقتحم النبي صلى الله عليه وسلم مدينتهم لينتقم لسنوات التعذيب والاضطهاد التي عاناها مع أصحابه على أيدي قومه، لكنه ضرب لهم أرقى مثال على القيادة الحقيقية، وجسد نموذجا كفيلا بالاعتبار والاستفادة من دروسه في عالمنا اليوم، ولم يدخل مكة منتقما، بل أصدر عفوا عاما، شمل حتى أعداءه السابقين، معلنا أنه لن يجبر أحدا على اعتناق الإسلام، وقد وضح للعالم أجمع، بشكل عملي، أسبقية ونجاعة اختيار السلام على الحرب وأن القائد الحقيقي هو وحده من يستطيع قيادة شعبه نحو الخير. يشرح بارنابي روجرسون مؤلف «النبي محمد: السيرة الذاتية» هذه اللحظة الجميلة المعبرة من العفو والصفح، بالقول: «لقد عفا عن أهل مكة، لكنه لم يعفُ فحسب، بل عفا بلطف».

نحن اليوم في أمس الحاجة إلى مثل هذه القيادة: قيادة تتسم بالشجاعة والعدل والتواضع والرحمة. هناك بالتأكيد دروس لا تعد ولا تحصى، يمكن تعلمها من حياة النبي محمد عليه الصلاة والسلام، وهي كفيلة بأن تنير لنا الطريق في زمننا الحاضر.

http://akhbar-alkhaleej.com/news/article/1087028