بقلم: هارون يحيى
تعتبر المسألة القبرصية مسألة تركية داخلية. والجزء الشّمالي من قبرص يعدّ جزء لا يتجزأ من تركيا، وفي تركيا نشأ جيل كامل على موضوع المسألة القبرصية. فقد خاضت تركيا حربا من أجل قبرص، وسقط فيها شهداء وخرجت في اسطنبول مظاهرات من أجلها وسال حبر كثير عن مسألة قبرص. وجميع الحكومات التي توالت في تركيا كانت متفقة في هذا الموضوع، ولعلّه الموضوع الوحيد الذي يتفق فيه الجميع في البلاد، ولا يخطر ببال أحد تقديم أية تنازلات في المسألة القبرصية، ولم يفكر أحد حتى الآن في مثل هذا الاحتمال.
ولهذا السبب فإنّ مواقف الرّئيس الجديد الذي تم انتخابه في القسم التركي من قبرص أثارت جملة من ردود الفعل السّريعة، باعتبار أن قبرص مسألة قوميّة وطنية. فقد صرّح الرئيس المنتخب مصطفى أكنجي أن العلاقة بين قبرص وتركيا ينبغي أن تكون علاقة أخوّة بدل أن تكون علاقة جزء بالوطن الأم، وهو يريد أن يتحرك ويتصرف بشكل مستقلّ عن تركيا ما وسعه ذلك، وبذلك يعتقد أنه يمكنه تحقيق السّلام مع القسم اليوناني من الجزيرة. وقد جاء موقف رئيس الجمهورية رجب طيب أردوغان شديدا وحاسما، كما أن مواقف جميع الأحزاب كانت متطابقة تقريبا. فالمسألة القبرصية التي تكتسي حساسية خاصة بالنسبة إلى تركيا أصبح ينظر إليها بطريقة مختلفة من قبل الرئيس القبرصي الجديد.
إن قبرص بالنسبة إلى تركيا قضية وطنية، ذلك أنّ الشّعب التركي بذل في سبيلها شهداء، وقد كان الانسحاب من متابعة هذه المسألة يعني دائما الهزيمة، فتركيا لم تقصّر يوما في دعم الشّعب التركي في قبرص سواء كان ذلك ماديا أو معنويّا. ومنذ 50 عاما وتركيا تنتظر على أبواب الاتحاد الأوروبي ولم تُقبل فيه، وكانت المسألة القبرصية هي العقبة الكأداء في هذا الخصوص، بيد أن تركيا لم تقدم أيّة تنازلات وأصرت على مواقفها.
إن قبرص بالنّسبة إلينا نحن الأتراك جزء من الوطن، ولذلك فإن استقلال الشعب الموجود هناك موضوع مصيري يخصّ جميع أطياف الشّعب التركي. ولهذا السبب بالتحديد احتجت تركيا على كلام الرئيس الجديد أكنجي وموقفه. فبعد أن هنأ زعيمُ حزبِ المعارضة دولت بهتشلي الرئيس المنتخب أكنجي بالرئاسة صرح بالقول: "إن من لا يقدّر المصاعب التي واجهت تركيا من أجل بقاء الجزيرة، ومن لا يقيم وزنا للتّضحيات التي تم بذلها سوف يواجه مستقبلاً مظلما". ولابدّ من إدراك هذه التّضحيات والوفاء لها، بدل الاستسلام للضّغوطات.
عندما ننظر إلى مطالب القسم التركي من جزيرة قبرص، فإنّنا من الضروري أن نقيمها بنيّة حسنة، فالسيد أكنجي رئيس دولة منتخب، وقد انتخبه الشعب بناء على تعهد من قبله بأن يكون مستقلاّ.
من بين الوعود الملموسة التي تم تقديمها لسكان قبرص التركيّة من أجل توفير الأمن والسلام بالمنطقة فتح "مراش" التي ظلت منذ عام 1974م مغلقة في وجه السّكان للإقامة فيها، واستخدام ميناء "ماغوسا" ومطار "أرجان" للتجارة والرّحلات المباشرة. وقد تم التعبير عن رغبة حقيقية في التعاون الاقتصادي والتّجاري مع القسم اليوناني من قبرص والذي يمر بأزمة اقتصادية حادّة.
شيء طبيعي وضروري أن تتقاسم دولتان في جزيرة صغيرة مصادرها الطبيعية وتتعاونان في المجال التجاري، كما أن الجزء اليوناني نظر بإيجابية إلى هذه المطالب. وعلى إثر انتخاب أكنجي مباشرة صرح رئيس جمهورية قبرص اليونانية بالقول :"وأخيرًا زادت آمالنا بأن يقع توحيد دولتنا من جديد".
من حق الشعب القبرصي أن لا يرضى بالوضع القائم في الوقت الحاضر، ذلك أن السياسات التي اُتّبعت في السابق لم توفّر له الأمن والسّلام. لكن ينبغي هنا التنبيه إلى خطأين اثنين في تقييم الموضوع: الخطأ الأول أنّ رفض الوضع القائم لا يعني بالضرورة رفض التواصل مع تركيا، فمن الممكن تماما تطوير سياسات جديدة بالتنسيق مع تركيا. وأما الخطأ الثّاني فيتمثل في تناسي كون الجانب اليوناني هو الذي يعرقل تحقيق عملية السلام إلى الآن. وبالرغم من تواصل الأزمة الاقتصادية في اليونان منذ مدة طويلة إلا أن ذلك لم يدفع اليونانيين للتقارب وتحقيق السلام، كما أن بعض أعضاء الكنيسة يقوم بدور كبير في تنفير الشّعب اليوناني من الأتراك.
عند تقييم جميع هذه المسائل يتبين أن موقف تركيا بشأن قبرص هو نفسه موقف اليونان من القسم اليوناني من الجزيرة، فلا ينبغي تناسي هذه المسألة.
فيما يتعلق بموضوع الحماية التركية على قبرص، فقد تم تسجيل ذلك من قبل الأمم المتحدة في اتفاقيات لندن وزريخ، وهذه الاتفاقيات من أقوى الاتفاقيات في القانون الدولي. وهذه الوصاية أو الحماية التي تنص عليها الاتّفاقيات لا يمكن تغييرها من قبل من كان وفي أيّ وقت يشاء.
إن الاستقلال كان أمرًا مهما جدا بالنسبة إلى الأتراك منذ آلاف السنين، وتركيا المستقلة لن تتخلى يوما عن قبرص التي بقيت تحت حكمها مدة 307 سنوات، وسوف تعمل على حماية وجودها. لقد أصرت تركيا منذ البداية على أن تكون هناك دولة من مجتمعين ومن قسمين. بيد أن الجانب اليوناني يصر على ضرورة جعل قبرص الجنوبية تحت سيادتها الكاملة بدل الاستقلال لكي تستفيد من مزايا الاتّحاد الأوروبي. وبالتأكيد إذا كان هذا هو شرط "السلام" فإن تركيا سوف تضع كل ثقلها بوصفها الحامية لقبرص لكي تقف ضد هذا المخطط. لكن تركيا سوف تبذل كل ما في وسعها لكي تدافع اليوم بقوة، مثلما دافعت من قبل عن إنشاء دولة من شعبين معترف بها دوليا. ونحن نعتقد أنّ الرّئيس الجديد لقبرص التركية سوف يخطو خطوات جادّة في طريق إحلال السلام، ونحن نؤيد القرارات التي يتخذها في هذا الخصوص، ونرجو له كل النجاح. نعرف أنّ هذه الخطوات قوية وقاسية أحيانا، ومن الضروري التذكير مع كلّ كل خطوة بأن هذه الإجراءات والقرارات في غاية الأهمية بالنّسبة إلى تركيا، بل هي مصيرية من النّاحيتين المادّية والمعنوية.