بقلم هارون يحيى
شهر يوليو يرجعُ بذاكرتنا إلى جزرتين رهيبتين؛ المجزرة الأولى هي مجزرة رواندا التي تعتبر المجزرة الموثقة الأضخم في التّاريخ. أما الثانية فهي مأساة سربرينيتسا. واليوم يتذكر زُعماء العالم هذه المآسي برؤوس مُنكّسة من الخجل.
في السّابع من نيسان عام 1994م شرع الجيشُ الرُّوندي المتكوّن بشكل أساسيّ من أغلبيّة الهوتُو في عمليّة تطهير عرقيّ ضدّ أقلية التّوتسي في البلاد، بينما اكتفى العالم كُلّه بالمُشاهدة ولم يُحرّك سَاكنًا. ويُعدّ مصطلح " التّفوّق العرقيّ" من أكبر عمليات التّزييف والكذب التي استخدمها المذهب المادّي، وقد تم تطبيقه بشكل تعسّفي على الشّعب الرّوندي منذ سنوات طويلة. وقد زعمت بعض الأوساط في أوروبّا أنّ هناك عرقًا بينيًّا وُجد في منطقة رواندا ما بين العرق الآري المتفوّق والعرق الأدنى فيها. ولهذا السبب اعتبر الهُوتو أن العِرق التّوتسي ليس أصيلاً في رواندا، وكان السّكان التّوتسي يتعرّضون باستمرار لحملات إهانة وسخرية، وكانت النتيجة أنه في خلال مائة يوم فقط تم تقتيل حوالي 800 ألف من قبيلة التوتسي وعدد كبير من الهُوتو المُساملين بطريقة وحشيّة. وفي شهر يوليو قُتل 10 جنود من قوات الأمم المتحدة المكلفة بحفظ السلام، فتمّ اتخاذ هذه العمليّة ذريعةً للانسحاب من المنطقة، واكتفت فرنسا وبلجيكا الدّولتان المستعمرتان القديمتان للمنطقة بمشاهدة هذه الجريمة البشعة.
ويعد تاريخ 11 من يوليو سنة 1995م يوما آخر يُثير الخَجل بسبب المجزرة البشعة التي اُرتكبت فيه. ففي أثناء حرب البُوسنة أُعلنت مدينة سربرنيتسا التّابعة للبُوسنة والهرسك منطقة آمنة من قبل الأمم المتّحدة، وبسبب ذلك توافدت على هذه "المنطقة الآمنة" أعدادًا هائلة من النّاس الهاربين من مناطق الحرب، وبينما كان عدد السّكان في هذه المنطقة قبل الحرب 20 ألف نسمة ارتفع في وقت قصير جدّا ليصل إلى 60 ألفًا. وفي إحدى الليالي، تلقت القُوات الهُولندية المسؤُولة عن حماية المنطقة أوامر من قيادة الأُمم المُتّحدة لحفظ السّلام في البوسنة بتسليم المنطقة بأكملها و25 ألفا من النّاس اللاّجئين إليها للصّرب. واستمرت المذابح لمدة أسبوعًا كاملاً، وحتى الآن تم التأكد من العثور على 64 مقبرة جماعيّة. وظلت الأمم المتحدة عاجزة حتّى عن حماية "المنطقة الآمنة" الخاضعة لسيطرتها.
واليوم تتكرّر المذابح التي اُرتكبت قبل 20 عامًا في رُواندا والبُوسنة بطريقة أبشع وأشمل في سُوريا. ففي هذا البلد ، وخلال 4 سنوات قُتل 300 ألف شخص وجرح مليون و200 ألف آخرين، بينما تم تشريد 11 مليون شخص من بيوتهم.
وبالرغم من التّقارير التي تصدر عن بعض الدّول الأوروبية والتي تؤكد استخدام الأسلحة الكيماويّة وووجود عمليات تعذيب وتعمّد إلقاء القنابل على المناطق المأهولة بالسّكان، فإن العالم ما يزال مكتفيًا بمتابعة المشهد ولا يُحرك ساكنًا.
ومن جديد كانت الأمم المتحدة هي العُنوان الذي أُرسلت إليه التّقارير المتعلقة بسُوريا، بيد أنّ هذه المنظمة ظلت عاجزة تماما؛ فهي لم تتمكن من إيجاد حلول للسّوريين اللاجئين من ناحية، ومن ناحية ثانية غير قادة على توفير مناطق آمنة للسّكان. ومن جانبه يعمل الأسد على التّخويف من الجماعات الرّاديكالية واستخدامها ذريعة، وهذه السياسة نجحت في تغيير مواقف الدّول التي كانت تُطالب برحيل الأسد سواء في أوروبا أو الولايات المتّحدة الأمريكيّة.
لا شكّ أنّ المشهد سوف يكون مختلفًا تمامًا عمّا هو عليه اليوم في رُواندا والبوسنة وسُوريا لو لم تكن المَصالح هي التي تحرّك العالم، ولو لم تكن فكرة "التفوّق العرقي" - التي هي نتاج المذهب المادّي المزيّف - مسيطرة على الأذهان، ولوكانت السّياسة في العالم قائمة على أهميّة "العنصر الإنساني" لا على المناورات والحسابات السياسيّة.
لعلّ مصدر المشكلة يتمثّل في أنّ الجميع ينتظر الحلول من الأمم المتحدة ومن الدّول العظمى في العالم، ومن أجل ألاّ نرى مزيدًا من المذابح مُستقبلاً، ينبغي عدم ترك اتخاذ القرارات للدّول الخمسة الكبرى وحدها فحسب، بل يتعيّن على العقلاء أن يجتمعوا ويكوّنوا قوة موازية قادرة على إسماع صوتها. وتشمل هذه القوّة العُقلاء والحكماء في الشرق الأوسط من المُناهضين للتّمييز العرقي وللذهنيّة البعثيّة وكذلك للتّوجهات الرّاديكاليّة. وتبحث هذه القوة في كيفية تقديم المساعدة للنّاس الذين يُعانون أوضاعًا قاسيةً، وكيفية توفير أماكن آمنة، وكيفية تكوين الوحدة التي تشكّل قوّة فاعلة قادرة على تغيير موازين القوى في مواجهة الدّول الخمسة التي تمتلك حقّ النقض.