هارون يحيى
تكتب ليلة الخامس عشر من يوليو صفحةً مجيدةً في كتاب تاريخ الانتصارات المدنية، إذ كانت تلك الليلة هي التي وقع بها أكبر وأنجح حراك مدني في العصر الحديث، إذ وقف الشعب التركي وقفة تحدٍ في ليلة محاولة الانقلاب المظلمة، ودافعوا عن ديمقراطيتهم، ولم تردعهم المقاتلات وهي تقصفهم، والمروحيات وهي تمطرهم بالرصاص، والدبابات وهي تدهس الحشود، والجنود وهم يَعدمون الناس ميدانيًا، والقناصة وهم يَقتلون، وقفوا في جرأة ولم يستسلموا، وقد استمر الشعب التركي في وقفته الدفاعية بالميادين التركية بنفس القدر من المرونة بدءًا من تلك الليلة، مُلوحين بالأعلام في أيديهم، واستمر خمسة ملايين مواطن في إظهار هذا السلوك النموذجي قادمين من كل مناحي الحياة، متغاضين عن خلافاتهم في التوجهات السياسية، والعقدية، والفكرية.
يتوقع شعبنا في وقفته المثيرة للإعجاب الدعم من أصدقائه الأجانب، يتمنون رؤية دعاة الحرية، والمشاهير المناهضين للانقلابات، ودعاة حقوق الإنسان، ودعاة السلام، وأطباء ومحامين بلا حدود من كل أنحاء العالم وهم واقفون بجانبهم، يتمنون رؤية وسماع رسائلهم الداعمة، وأيادي العون الممدودة، يتمنون رؤية أصدقائهم الدوليين منحازين للحق لا للقوة.
لكنَّ بعض المجموعات الإعلامية الدولية تستمر في السقوط في اختبار الصراحة هذا مع كل يومٍ يمر للأسف، فمنذ اللحظة الأولى للانقلاب، اجتاح العالم طوفان من التعليقات المريضة، والمعلومات المُضللة، منبعها تلك المصادر الأجنبية، التي قامت بنشر الوجهة السرية لطائرة الرئيس التركي على القنوات الأجنبية، وحساباتها في وسائل التواصل الاجتماعي، في الوقت الذي كان يجب فيه الحفاظ على سريتها بصرامة، فمَنح هؤلاء - الذين حاولوا التقليل من شأن مقاومة شعبنا - تلك المعلومة لهؤلاء الذين أعلنوا أن الانقلاب هو ملاذهم الأخير، منحوها لهؤلاء الذين أظهروا دعمهم للانقلاب، وكان المشهد مزعجًا، لكنَّ الإعلام التركي على الجانب الآخر، أدان كله الانقلاب المظلم بدون استثناء، ووقف بدون قيد أو شرط بجانب الدولة والشعب. ومع ذلك، يبدو أنَّ بعض الجماعات الإعلامية العالمية قد حملوا على عاتقهم تدشين حملة تشويهٍ للسمعة. دعونا الآن نُلقي نظرة موجزة لنرى كيف أبدت تلك الجماعات الإعلامية الغربية معايير مزدوجة.
بمجرد بدء الانقلاب، بدأت بعض مصادر الأخبار الأجنبية في نشر أخبارٍ عن نجاح الانقلاب، بل إنَّ أحد مصادر الأخبار البريطانية الشهيرة قدمت الانقلاب على أنَّه انتفاضة، وصورته كأنَّه حالة تتصارع فيها مجموعتان من المجتمع، مثلما حدث في مصر، وحتى بعد أنْ بدا جليًا فشل الانقلاب، استمر هذا المصدر في ادعاء خلاف ذلك.
عندما بدأت أخبار محاولة الانقلاب في الانتشار، شرعت بعض مصادر الأخبار البريطانية، والألمانية، والأمريكية في صناعة أخبار مُضللة على حساباتهم في تويتر، وطبقًا لتلك المصادر، كان الرئيس أردوغان يطلب اللجوء في أوروبا، وقد تمادى بعض الصحفيين في هذا الأمر إلى الحد الذي دعاهم لادعاء أن ألمانيا رفضت هذا الطلب، وادعت قناة تلفزيونية أمريكية أنَّ مصدرهم ضابط مرموق في البنتاجون، وادعت صحيفة بريطانية أخرى أنَّ أردوغان كان يحاول الهروب من البلاد في طائرة خاصة.
ونشرت وسائل إعلامية كبرى أخرى أخبارًا مغلوطة تدعي أنَّ الرئيس التركي قد وصل بالفعل لألمانيا، وقامت قناة فرنسية بعرض مجموعة من تغريدات مؤيدي الانقلاب كخبر، في محاولة منها لخلق صورة ذهنية تبيِّن أنَّ الشعب التركي يُؤيد الانقلاب. كل هذه الأخبار كانت تهدف لتحريك التوازن النفسي لصالح مدبري الانقلاب، وفي هذه الأثناء تسببت أحد مصادر الأخبار الكبرى في فضيحة عندما ادعت أنَّه في حالة فشل الانقلاب سيفوز الإسلاميون وسيخسر الغرب.
وعندما ظهر جليًا فشل مدبري الانقلاب، خرجت تلك المصادر الإخبارية بعناوين جديدة، تقريبًا كل وسائل الإعلام الغربية بدأت في الترديد بانسجام أنَّ الرئيس أردوغان هو من يقف وراء هذه المحاولة الفاشلة، وبينما كانت كل قنوات التلفزيون التركية تقريبًا تُظهر المدنيين وهم يُقتلون على يد الجنود مدبري الانقلاب، فضَّلت تلك المصادر الإخبارية أن تُغطي أخبارًا يَظهر فيها جندي وهو يُعامل بخشونة من ثلاثة مواطنين، وقد أُخذت تلك الصورة على جسر البسفور، حيث مات أكثر من 40 مدنيًا على يد مدبري الانقلاب، ولكن لسبب ما، لم تذكر تلك المصادر الإخبارية كلمة واحدة عن الأناس العُزَّل الذين ذُبحوا بوحشية في هذا المكان.
وفي غضون 24 ساعة تالية، أصبح جليًا أنَّ الانقلاب لم يكن مسرحية على الإطلاق، وكان بالفعل أحد أكثر الليالي دموية في السنوات الأخيرة. ومرة أخرى، فضلت تلك المصادر الإعلامية عدم ذكر ملايين الناس الذين تحدوا الانقلاب الدموي، لم يتحدث مقدمو البرامج أبدًا عن هؤلاء الذين ضحوا بأرواحهم لإنقاذ الديمقراطية.
واليوم، تستمر تلك المصادر الإعلامية في عرض مشهد من كارثة - لسبب ما - يتغاضون بمنهجية عن تغطية أية أخبار عن الوقفات السلمية، الهادئة، المعارضة للعنف للمدنيين في الشوارع، ويُفضلون التركيز على قصص ما تُدعى بالديكتاتورية، بدلًا من محاولة فهم المحاولة الانقلابية، وإدانة العقلية الانقلابية، والتساؤل عمن يمكن أنْ يكون وراءها، أو كشف علاقاته الدولية، وتستمر بعض وسائل الإعلام الغربية الكبرى في إبداء نفس التعليقات بعناوين مختلفة.
يجب على العالم الغربي التخلي عن سياسته التي تحاول إظهار تركيا كما لو كانت في دوامة انحدار، ويجب عليه التوقف عن دعم العقلية الانقلابية البشعة. وبدلًا من هذا، عليها البدء في دعم تركيا ومجهوداتها في توضيح هذه الحادثة للعالم، إنَّ عدم استقرار تركيا لن يكون في صالحهم أيضًا. على أية حال، هذا ليس قدر تركيا، نحن نتوقع أن نكون سعداء لأنَّ الديمقراطية فازت، وينبغي أن نتذكر أنَّه في ليلة الخامس عشر من يوليو تصارع طرفان في الشوارع، بينما كان الشعب البريء قاصدًا حماية ديمقراطيته ودولته، ومنظمة مسلحة تبغي الاستيلاء على القانون والنظام باستخدام السلاح والترهيب. لو أراد العالم الغربي الانحياز للخونة بدلًا من الديمقراطية، سيرتد عليهم الضرر الذي يُحاولون إحداثه للديمقراطية، نتمنى أن يُدركوا ذلك قبل فوات الأوان.
وعلى هؤلاء الراغبين في فهم ما حدث حقيقةً في تركيا تلك الليلة، يجب عليه مشاهدة الإعلام التركي، ولقطات الهواة المنشورة على يوتيوب ومدونات الفيديو، ستكون هذه المشاهد البشعة أكثر من كافية للكشف عن وحشية الليلة، وعن العقلية المختلة لمدبري الانقلاب، وهي شهادة مثالية لحقيقة أنَّه لن يفوز أي مدبر انقلابٍ في تركيا طالما وقف الشعب في وجهه.
اليوم هو يوم للتضامن المدني، العالم لن يحتمل تركيا غير مستقرة، أو تركيا تتصارع في حرب أهلية، إنَّ إظهار احترام ضروري ومُستحق للتحدي الجميل الذي أبداه 250 شهيدًا و1500 جريح يُعد مطلبًا إنسانيًا.