إنها الطريقة التي من خلالها يلغي الناس ضميرهم و التي تمنعهم من أن يُوَلُّوا وجوههم إلى الله ومن أن يمتثلوا للقيم الأخلاقية التي أمرنا بإتباعها.
"قلبي نقي، وهكذا سيغفر الله لي في كل الأحوال".
كثيرا ما نسمع مثل هذه الأقاويل ممن يحيطون بنا. هذا التصور المزيف للغاية، و الذي يكمن في عذر مُختلَق من طرف الناس أنفسهم، يُستخدم بُغيَة تجاهل صوت الوعي لديهم. فما هو المعنى الحقيقي " لنقاء القلب" إذن؟ وفقا للقيم الأخلاقية القرآنية، هل يُعَد " عدم إيذاء الناس" مبررًاً كافيًا من أجل التغاضي عن المسؤوليات التي أنزلها الله علينا ؟
نقاء القلب كما هو موضح في القرآن الكريم
يخبرنا القرآن الكريم أن الله عز و جل يأخذ بالاعتبار قلوب الناس، كما هو جلي في الآية التالية: "إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ"
(سورة الشعراء، الآية 89 )
إلا أن المفهوم القرآني للقلب السليم ليس هو القلب النقي كما يتصور بعض الناس، حيث نجد أن القرآن يعرف القلب السليم بكونه ذاك القلب الذي يؤوب إلى الله و يخضع له.
وفقا لكتاب الله، فالناس ذوو القلوب السليمة هم من يؤمنون بالله، يراعون حدوده و نواهيه، و يذعنون له تمام الإذعان. و تبعا لديننا الحنيف فليس هناك شكل آخر للقلب السليم عدا ما سلف.
ونجد أن الذكر الحكيم يحدد صاحب القلب السليم في كونه شخصا دائم الاستحضار للخالق، وفي كونه يشعر بالطمأنينة بفضل تذكره لله جل في علاه.
يصف الله في كتابه العزيز المؤمنين كما يلي:
"الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّه أَلابِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ َ".
سورة الرعد، الآية (28)
وفي آية أخرى، يصور الله المؤمنين بأنهم "الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُم ".
سورة الحج، الآية (35)
ومن السمات البالغة الأهمية عند المؤمنين،"حساسية القلب" التي تسمح لهم باستشعار الانشراح و المتعة في ظل الأخلاق القرآنية، و الإحساس بالسعادة و الصفاء عبر طاعة الله عز و جل. و يصف الإله سبحانه وتعالى هذه الحساسية باعتبارها هداية منه جل و علا" اذ يقول:"
"اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُود الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ"إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ".
سورة الزمر، الآية (23)
وبناء عليه، فإن القلب السليم في السياق الإسلامي يعني طهارة القلب من كل أنواع النجاسة التي تبعد الإنسان عن الله. فمثل هؤلاء الناس يتجنبون الطمع الدنيوي، الأنانية، الخوف و انعدام الأمان. و بالتالي فهم لا يتعلقون بأي شخص أو أي شيء من دون الله. زد على ذلك أنهم لا يشعرون بالحب إلا لله و في الله.
"نقاء القلب" كما يراه الناس
طبعا، فمن المهم و الجيد للفرد أن يكون معروفا في مجتمعه بوصفه "شخصا صالحا ذا قلب نقي".
إلا أن الارتكاز على أهمية امتلاك "قلب نقي" بين الناس، و من ثم القول"أنا لا أؤذي أحدا" أو " أني أساعد الناس حتى في وقت الحاجة" ، لا يعني أننا نعيش تماما وفقا للقيم الأخلاقية للقرآن. علاوة على ذلك، فالتفكير بتلك الطريقة ليس سوى انخداعا ووقوعا في الخطأ.
يمكن لمجتمع غير متدين أن يعتبر أن سلوكا معينا جيد و نافع، حتى و إن لم يقم على الأخلاق القرآنية، إلا أن هذا السلوك قد لا يكون ذا قيمة عند الله. المعيار الرئيسي الذي يجعل من فعل ما خيِّرًا و قيِّمًا عنده جل في علاه هو درجة توافقه (أي الفعل) مع ما يرضي الله، والآيتان التاليتان تشرحان ذلك بجلاء:
"أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ الله وَاللَّهُ لاَيَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ".
سورة التوبة، الآية (19)
"لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَهُمُ الْمُتَّقُونَ".
سورة البقرة، الآية (177)
أسس القيم الأخلاقية هي الامتثال والرهبة من الله.
يمكن للناس أن يُعرفوا بكونهم"صالحين" عن طريق إطعام الحيوانات التي يصادفونها في الشارع أو من خلال التعامل بلطف و إحسان مع الجيران. بدون أدنى شك فهذه سلوكيات حميدة. و لكن السبيل للنجاة من المعاناة الأبدية في الجحيم و الفوز برضا الله و رحمته لا يكمن في أن تكون معروفا بأنك "شخص طيب و صالح"، بل بأن تكون مؤمنا بحق وفقا للطريقة التي و صفها الرحمان في القرآن الكريم.
كما سبقت الإشارة ، فلا يمكن لشخص لا يسير على النهج السليم القويم أن يمتلك "قلبا نقيا" حسب المفهوم الإسلامي لهذا المصطلح.أولئك الذين يعيشون على منطق أن"قلبي نقي "ثم أني" لست ملزما بإتباع القيم الأخلاقية للقرآن" و يصرون على الاستمرار على هذا التفكير، ربما يُخَيَّل إليهم أنهم يخدعون الآخرين في حين أنهم أنفسهم يخدعون و هم لا يدركون. قول مثل هذه الأشياء ينم عن تفكير معوج لشخص يتحاشى تطبيق تعاليم الكتاب الحكيم و يسعى إلى تصوير نمط حياة زائف كما لو كان نمطا للمسلم الحق، هذه السلوكيات غير المخلصة لا يمكن بتاتا أن تقبل. حيث أن الله عالم بما تضمره قلوب العباد، و يقول تبارك و تعالى:"إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُور".
(119سورة آل عمران، الآية )
العيش وفقا للقيم الأخلاقية القرآنية يحرر المرء من القيم الدنيوية المادية ومن كل أشكال التبعية تجاه الآخرين.
ذاك المؤمن الذي يتسم بتلك الأخلاق الرفيعة يسعى إلى رضوان الله و ليس رضا غيره، لا يخشى سوى خالقه و يدرك يقينا أن مقاليد الأمور كلها بيده (عز و جل). هذه الخشية تدفعه إلى التقيُّد الصارم بحدود الله و إلغاء كل الأعذار التي تُناجِيه بها نفسه. في الواقع ، فالشعور بالرهبة من الله و الجهود الجدية المبذولة من أجل الفوز برضاه هي الأساس الذي ينبني عليه ما أمر به القرآن من قيم أخلاقية نبيلة. وقد تبيَّن ذلك من خلال هذه الآية:
"أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْأَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىَ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِجَهَنَّمَ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ".
(سورة التوبة، الآية 109 )