في شهر حزيران من العام الماضي سيطر تنظيم الدّولة الإسلامية على مدينة الموصل، ولم يستطع الجيش العراقي الصمود أمام زحفه، واختيار الانسحاب من المنطقة. وقد حدث مشهد مُماثل خلال الأيّام الماضية في مدينة الرّمادي إحدى أكبر المدن العراقية، فقد انسحب الجيش العراقي على إثر سيطرة تنظيم الدّولة الإسلامية على المدينة، وصرّح قائد القوات الأمريكيّة دمبسي بأنّ" القوات العراقيّة اختارت الانسحاب من المدينة، ولم يكن تنظيم الدّولة الإسلامية من الذي أجبرها على ذلك..."
إن التقييم المتعلّق بالتّصريحات التي تقول بأنّ "الجيش العراقي ترك السّاحة ولاذ بالفرار" يؤشّر إلى حجم الفوضى الذي يمكن أن يصل إليه العراق مستقبلا. وفي الوقت نفسه فإنّ الوضع الذي تردّى فيه العراق في الوقت الحالي يجعلنا نمسك برأس الخيط من أجل فهم هذا الوضع.
ولكي يمكننا تلمس هذا لخيط يجدر بنا تقييم كلام وزير الدّفاع الأمريكي آشتون كاتر بشأن "انسحاب" القوات العراقية. فقد صرح كارتر على إثر استيلاء تنظيم الدولة الإسلامية على الرّمادي بالقول "هذا الوضع يدل على أنّ الجيش العراقي يفتقد إرادة القتال"، والانسحاب الذي حصل "مثير للانشغال إلى أقصى درجة". وأضاف قائلا" بإمكاننا أن نمنح الجيش العراقي التّدريب، ونعطيه السّلاح، بيد أنّنا لا يمكننا أن نهبه إرادة القتال".
إن كارتر الذي يبدو كما لو أنّه يقدّم تقييما للمسألة العراقية، هو في الحقيقة بكلماته يكشف عن السياسة التي تنتهجها الولايات المتّحدة الأمريكية في كامل منطقة الشرق الأوسط.
بتعلة البحث عن الأسلحة الكيميائية قام جورج بوش بغزو العراق. وهذه السياسة هي السبب في ظهور الجماعات الراديكالية. وسياسة الولايات المتحدة الأمريكية في نشر الفوضى في منطقة الشرق الأوسط بدأت الآن بالفعل تؤتي أكلها. ففي الوقت الذي يصوّب فيه المسلمون السّلاح تجاه بعضهم البعض في كل من العراق وسوريا واليمن وليبيا وبقية مناطق الشرق الأوسط، فإن الولايات المتحدة الأمريكية تفاجأت بظهور تنظيم الدولة الإسلامية، فهو لم يكن البتّة موضوعا في حساباتها ومخطّطاتها العميقة. ولهذا السّبب وجّه كاتر اتهاماته للجيش العراقي. ذلك أن المخطّطات التي تم رسمها لتقسيم منطقة الشرق الأوسط قد نجحت في ضرب المسلمين بعضهم ببعض، لكن الرّابح في هذه الفوضى لم يكن الغرب ولا الحكومات الموالية للغرب في المنطقة.
إن منطقة الشّرق الأوسط تكتسي أهمية كبرى، وهي جغرافيا مهمة بالنسبة إلى العالم المسيحي الذي له انتظارات كبرى فيها. ولهذا السبب فإن المخططات العميقة التي يرسمها الغرب لهذه المنطقة الجغرافية ليست مفاجئة، ولم تعد سرًّا. بيد أن تحميل الغرب المسؤولية الكاملة على ما ترّدت فيه هذه المنطقة من ضعف مخيف ليس سببا واقعيا.
لقد عاش المسلمون في هذه الديار منذ سنين طويلة جنبا إلى جنب رغم اختلافاتهم العرقية والمذهبية تحت راية الهوية الإسلامية. وهؤلاء المسلمون المتآلفون كانوا يتنافسون في كيفية زيادة قوتهم وتقوية شوكتهم، وكانوا يستخدمون كل وسيلة ويسلكون كل طريق من أجل تحقيق هذه الغاية. ولا ينبغي تحميل القوى الخفية والعميقة في الغرب المسؤولية عن الأحداث في الشرق الأوسط في كل مرة؛ فقد يكون النفط أحيانا هو السبب، وقد يكون الانتماء العرقي هو السبب، وقد يكون السبب هو الاتجاه المذهبي، ولهذا السبب بالذات ينتج الغرب السلاح، ويتسلّح به الشّرق.
إيران خير مثال على ذلك، فبالرغم من أنها وقّعت على اتفاق للحدّ من امتلاك الأسلحة النووية فإن الاتفاق يقضي بأن تتخلص من العقوبات المفروضة عليها بشأن الأسلحة التقليدية. وهذا الوضع سوف ينعش سوق التسلّح على المدى القريب. وتأمل فرنسا في بيع الطائرات الحربية لدول المنطقة، والآمال نفسها تراود كلا من دول أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية وروسيا.
ووفقا للمعطيات الصادرة في عام 2004م فإن نصيب الولايات المتحدة الأمريكية من سوق بيع الأسلحة التقليدية هو 28 % ، ونصيب روسيا 27 %. وينتظر أن تبيع روسيا لإيران أسلحة بقيمة تتراوح ما بين 11 و13 مليار دولار بعد توقيع الاتفاق. وأما بقية دول المنطقة فهي تمثل سوقا كبيرة يسيل لها لعاب تجّار السّلاح. ومن بين العوامل التي تغذّي سوق السّلاح النّزاعات العرقية والمذهبية، وأبرز مثال على ذلك ما فعل النظام العراقي بعد أن فقد السيطرة على حدوده مع سوريا وفقد كذلك كبرى مدنه حيث أطلق العنان للمليشيات الشيعية على أهل السنة في المناطق التي هي تحت نفوذه يعيثون في الأرض فسادا ويُثخنون في النّاس قتلاً وإبادة تحت سمع العالم وأمام بصره. كما أنّ قسما من الأكراد، بالرغم من كونهم من السنة تعاملوا بحذر مع العرب السنة، واستخدموا المسألة العرقية ورقة للمساومة. ومن المؤسف أنّ المسلمين الشّيعة لا يقبلون حتى إعطاء شيء من دمائهم لإخوانهم الجرحى من أهل السنّة.
والمسلمون السنة لا يقبلون الصلاة خلف إمام شيعي، والمسلمون الشيعة كذلك لا يقبلون الصلاة خلف إمام سنّي، تماما كما لو أنهم ليسوا أبناء دين واحد. ويتم اليوم العزف على أوتار حسّاسة في المنطقة من قبيل التّخويف من فرض العنصر العربي، أو فرض العنصر الفارسي، أو فرض العنصر التركي. وتكون نتيجة كل هذا أن يضرب المسلم أخاه المسلم ويقتل المسلم أخاه المسلم. وقد بلغ سباق التّسلح هذا مدى بعيدًا. وتشير الإحصائيات إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية باعت للمنطقة أسلحة بما قيمته 8.4 مليار دولار سنة 2014م، وهو أعلى رقم تسجّله في مبيعاتها للأسلحة.
بعد كل هذا يمكن القول بأنّ الغرب هو المخطئ، لكن التعمق في فهم الموضوع يجعلنا لا نقتنع بهذا التّفسير. وإذا تمّ ترديد هذا القول فلن يتخلص الشرق الأوسط من هذا البلاء ولن يتم التوصل إلى أي حلّ.
على مسلمي الشّرق الأوسط أن يقرّوا بكلّ بوضوح " أنّ المتهم الحقيقي هو رُوح الشقاق والاختلاف بين المسلمين، هذا الاختلاف الذي دبّ في أرضنا وجعل المسلم يسفك دم أخيه المسلم، ويزرع العداوة بينه وبين أخيه المسلم، ويتنافس المسلم لشراء السّلاح ليوجهه إلى صدر أخيه المسلم. هذا الاختلاف الذي أعطى المجال للآخر لكي يقول "إنّه لا يُوجد لديكم الإرادة لقتل المُسلمين".
عندما يستطيع المسلمون الإقرار بهذا، وعندما يُدركون أنّ الشّقاق الذي دبّ بين صفوفهم لا يقبله الله ولا يرضاه، وعندما يُوقنون بتحقّق ما جاء في الآية الكريمة " إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ" (سورة الأنفال، 73)، فعندئذ فقط سوف ينزاح عنهم هذا البلاء الذي يخيّم عليهم، وتجفّ هذه الدّماء المسفوكة.
عندئذ سوف ينزاح كابوس الشّقاء والبلاء، ويخيب سعي المؤامرات والمخططات التي تُحاك لهم. ينبغي أن لا ننسى أنّ الشّرق الأوسط لم يصل إلى هذه الحالة بسبب أباطرة السّلاح وعناصر الاستخبارات وإرادتهم فحسب، بل وصلوا إلى ذلك أيضا بسبب غياب الوحدة واستشراء الاختلاف.
هذا الخطأ أفقد المسلمين نصر الله وعونه فأوكلهم إلى أنفسهم. لقد حان الوقت لنا نحن المسلمين لكي نطبّق ما جاء في كلام نبّينا وبيان ما جاء به من حكمة بالغة عندما قال"الجماعة رحمة والفرقة عذاب".