بقلم: هارون يحيى
كانت نتائج الانتخابات التي جرت في تركيا وتابعها العالم عن قرب مفاجئة بكل المقاييس، فحزب العدالة والتنمية فقد نسبة كبيرة من أصوات الناخبين في الانتخابات التي جرت في 7 حزيران الماضي، وكانت التوقعات تشير إلى أنه سوف يزيد من عدد المصوّتين لصالحه في الانتخابات المبكرة بيد أن الزيادة التي تحققت، والتي تقدر بـ 9 نقاط كاملة كانت أكبر من جميع التوقعات.
ولاشك أن ثمة أسبابا مهمة أدت إلى هذا التحوّل، ففي خلال الخمسة أشهر الماضية شهدت تركيا أكبر عملية إرهابية في العاصمة في تاريخها، وبالإضافة إلى هذا الحادث فإن انتهاء وقف إطلاق النار مع التنظيم الإرهابي المتمثل في حزب العمال الكردستاني والشروع في عمليات مسلحة ضدّ هذا التنظيم في داخل الحدود وخارجها مثل تطورًا جذريا بالنسبة إلى الإنسان التركي.
لأول مرة، بعد 13 عاما عاشت البلاد فراغا سياسيًّا وظلّت بلا حكومة لفترة من الوقت. وعندما تصاعدت الأعمال الإرهابية لحزب الاتحاد الدّيمقراطي في شهر حزيران المَاضي المدعوم من حزب العمال الكردستاني، لم تُبدِ بعض الأطراف الكرديّة أيّة ردّة فعل إزاء هذه العمليات، ولهذا السبب فإنّ الأصوات التي ذهبت إلى الأكراد عادت مرة أخرى إلى حزب العَدالة والتنمية. ثم إنّه في فترة الفراغ السياسي امتنعت أحزاب المعارضة عن الدخول في أيّة حكومة ائتلافية، ولم تستفد من الفُرص التي أتيحت لها.
كما أنّه في خلال الأشهر الخمسة الماضية أُصيب الاقتصاد التركي بأضرار حقيقية وجدّية، ثم إنّ الشّعب التركي، لأول مرة بعد وقت طويل شعر أنّ الاستقرار أصبح مهدّدًا.
غير أن العامل الكبير في نجاح حزب العدالة والتنمية في هذه المرّة هو انصرافه عن الحديث عن "النّظام الرئاسي"، وهو الأمر الذي تسبب في تراجع أصواته في انتخابات شهر حزيران. فالحديث عن النّظام الرّئاسي لا يعني سوى دعوة لتقسيم الشّعب التّركي. وهذه الدعوة لا تعني سوى تسليم قسم من شعبنا ومواطنينا الأكراد إلى تنظيم حزب العمال الكردستاني الإرهابي. ولهذا السّبب كانت مسألة النّظام الرئاسي مسألة حسّاسة جدّا بالنّسبة إلى الشّعب التّركي، ونأيُ حزب العدالة والتّنمية بنفسه عن هذا الموضوع هو الذي مكّنه من كَسب نقاطٍ جديدةٍ.
المهم الآن هو ما سيأتي في المرحلة القادمة. بعد الانتخابات الماضية قال رئيس الحكومة أحمد داوود أوغلو "لقد فهمنا الرّسالة التي أرسلتموها في السّابع من حزيران". وهذا الكلام مهم للغاية. فالشّعب سَحب الحُكم من حزب العدالة والتنمية في السّابع من حزيران، وقال بكل وضوح إنّه لا يقبل أبدًا النّظام الرّئاسي، كما أكّد أنه في حاجة إلى ديمقراطية أقوى، ويريد أن يتخلص من التخاصم والاستقطاب، وهذا لا يتحقق بواسطة نظام جديد بل بتطوير النظام البرلماني الموجود. وإذا كان حزب العدالة والتنمية قد تلقّى الرّسالة بالفعل فعليه أن يخطو مستقبلا خطوات في غاية الأهمّية.
إن الشعب يختبر صدقية الحكومة، وقد أعطى صوته معتقدا أن الحديث عن النظام الرئاسي قد انتهى. وعندما يعود حزب العدالة والتنمية للخوض في هذ الموضوع فالشعب سوف يشعر بأنه تعرض للإهانة، وبالتالي سوف ينفض بشكل كامل عن الحزب. وتبعا لذلك فعلى حزب العدالة والتنمية أن لا يقع في هذا الخطأ.
خلال فترة البحث للتوصل إلى حل مع حزب العمال الكردستاني استغل الحزب الوقت لكسب مزيد من التوسع، وقد اعترفت الحكومة أن ما حدث كان خطأ وأنها "خُدعت" في ما أقدمت عليه من خطوات. ولهذا السبب، ينبغي أن يكون موقف الحكومة الآن صارما إزاء حزب العمال الكردستاني وأن تعقِدَ العزم على القضاء نهائيا على هذا التّنظيم الإرهابيّ.
لقد أكد رئيس الحكومة أحمد داوود أوغلو في خطاب النصر أنّ حقوق الجميع مُصانة ومحفوظة، وهذا أمر مهم جدّا، فمن الضروري الاستماع إلى مظالم وشكاوى كل من لحق به ظلم بسبب النظام القانوني، وفي هذا المجال يتعين اتخاذ تدابير جدية.
غير أن ما هو أخطر من ذلك، ومن أهم القضايا المطروحة في تركيا قضية التوتر والاستقطاب التي تشق المجتمع. وما ما يتعيّن على رئيس الحكومة ورئيس الجُمهوريّة هو كسب قلوب أولئك الـ 50 % الذين لم ينتخبوهما. فنصف الشعب معهما، و50% ليسُوا مُمثّلين في السّلطة، وهذا ليس شيئا بسيطا. رئيس الحكومة بين بعد الانتخابات أن هذا الانتصار هو انتصار لتركيا كلها، وأكد على معاني الرحمة والتواضع والمحبة، وبذلك بعث برسالة مهمة. وهذه التصريحات إيجابية جدا وصائبة إلى أبعد الحدود، ومن الضروري المواصلة في انتهاج هذا الأسلوب نفسه. ومن الحكمة بمكان كسب قلوب الـ 50 % الآخرين الذين يشكّل اليساريّون منهم قسما كبيرًا. ومن الأهمية بمكان التأكيد على معاني المحبة والرحمة وطمأنة النصف المتبقي من الشّعب باعتبار أن نهضة تركيا لا تكون إلا عن طريق وحدة شعبها في كتلة متعاضدة.
ينبغي أن لا ننسى حقيقة مهمة، وهي أن نهضة أية بلاد ودَمقرطتها وتطوّرها لا تتحقق إلا ّإذا كان شعبها مُرّفهًا وسعيدًا. وإذا حقق حزب العدالة والتنمية هذه الغاية يكون قد نجح في الحكم النجاح الحقيقي، وفي ذلك الوقت يكون قد كسب قلوب 78 مليون إنسان، وبالتالي انفتح الطريق فسيحا أمام تركيا.