بقلم: هارون يحيى
تربط بين روسيا وتركيا علاقات صداقة متينة، وهذه الصداقة ظلت مستمرة حتى في العهد السوفييتي. وهذا المسار لم يتعكر حتى أثناء الحرب الأهلية في سوريا وفي أزمة أوكرانيا وفي أزمة القرم كذلك. ذلك لأن تركيا وروسيا، مثلما ذكر ذلك بوتين ليسا مجرد جارين فحسب بل أصدقاء كذلك.
ولهذا السبب فإن حادث إسقاط الطائرة التي اخترقت الحدود التركية لم تثر استغراب العالم فقط بل أثار كذلك استغراب الشعبين التركي والروسي. فوفقا للتغييرات التي طرأت على قواعد الاشتباك في عام 2012م فإن الطائرات التي تخترق المجال الجوي التركي يتم إنذارها على مسافة 10 أميال، وإذا لم تستجب الطّائــرة يتم إطلاق النار عليها على الفور.
وبالنسبة إلى الحادث الذي وقع فقد تم إنذار الطيار على بعد 15 ميلاً لعشر مرات، واستمر الإنذار لمدة 5 دقائق. وكانت الطائرة قد اخترت المجال الجوي التركي لمدة 17 ثانية. وهذه المعلومات تم إبلاغ الرّأي العام بها. وفي اليوم نفسه دعت تركيا إلى اجتماع طارئ لحلف شمال الأطلسي، وفي نهاية الاجتماع صدر البيان التالي "إنّ المعلومات التي بين أيدينا تتفق مع ما لدى حلفائنا من معلومات، وهي تبين أن معلومات تركيا صحيحة".
كما أنه وعلى إثر جميع هذه التصريحات نشرت قيادة الأركان بيانا مكتوبا استخدمت فيه التعبير الآتي "طائرة مجهولة الهوية اخترقت المجال الجوي التركي". وهذا يبين أن هدف تركيا لم يكن روسيا، بل كل طائرة مهما كانت جنسيتها، وقد كانت تركيا أكدت أنها اعترضت الطائرة طبقا لقواعد الاشتباك.
على إثر هذه التصريحات صرح بوتين بتصريحات شديدة اللهجة تجاه تركيا، وألغى لافروف وزير الخارجية الرّوسي زيارته إلى تركيا التي كان مخططا لها من قبل، واكتسبت الحادثة على الفور أبعادًا جديدةً. فعلاقات الصداقة بين البلدين والتي كانت مستمرة منذ قرن تقريبا تأزّمت فجأةً. وصرح الرئيس التركي أردوغان بالقول "نحن نأسف أنّ هذه الحادثة أوصلت الأمور إلى هذا الوضع"، وهذا تعبير يحتوي على قدر كبير من التأثر ومن اللّين. وواضح أن ثمة حرصا على عدم إلحاق الضرر بعلاقات الصداقة بين الطرفين.
ونود هنا أن نذكر بما يلي: مهما يكن من حق كل دولة في تطبيق الإجراءات التي تتفق مع مصالحها بخصوص قواعد الاشتباك فإننا لا يمكن أن نوافق على إجراءات تتسبب في قتل البشر سواء كانوا في الأجواء أو في الأرض. وأفضل طريق لحل مثل هذه المشاكل لا يكون إلا بانتهاج السبل الديبلوماسية.
حسنا، ما الذي ينبغي عمله بعد الآن؟
كان قادة كل من تركيا وروسيا يتصرفون بتعقل وهو ما جعل العلاقات بين الطرفين تستمر على هذا النحو، وفي المستقبل كذلك ينبغي أن تتواصل بالطريقة نفسها. وفي هذه الأيام الساخنة يتعين الابتعاد عن التصريحات ذات اللهجة الشديدة، وينبغي تجنب الأساليب الغاضبة، والتصرّفات التي قد تجلب النّدم بعد ذلك. ومن الضروري عدم التسرع في اتخاذ قرارات تفسد أجواء الصداقة بين الشعبين مثل " إلغاء الاتفاقيات" و "وقف السفر والرحلات إلى تركيا". وعلى الرئيس بوتين أن لا يعتبر الحادثة موجهة بشكل خاص ومتعمد نحو بلاده. ويتعين ألا يُنظر إلى هذه الحادثة على أنها حادثة شخصيّة، فتركيا لم تفعل إلا ما من شأنه أن يحفظ سلامة حدودها.
وقد صرّحنا في أكثر من مُناسبة في المقالات المنشورة على مستوى عالمي أو في التصريحات التلفزيونية أنه ينبغي عدم التخلي عن روسيا إزاء ما تُواجهه من أزمات بما في ذلك الأزمة الأوكرانيّة. وسوف نواصل جهودنا في ها الخصوص. وعلى الرئيس الروسي وبقية المسؤولين الروس أن يساعدوا في هذا الخصوص، وذلك بأن تكون تصريحاتهم أكثر اعتدالا وتوازنًا.
تركيا وروسيا تربطهما علاقات صداقة لا يمكن أن تنفصم، وبأيدينا أن لا يلحق الأذى والضّرر بهذه الصداقة، وأهم ما يتعين اتباعه في هذا الخصوص هو الاعتدال. وإذا تمكنا من الحفاظ على الاعتدال في هذه الأيام يمكن في المستقبل ترميم ما انجرّ عن هذه الحادثة المؤسفة من تأثيرات.