هارون يحيى
على الرغم من العواقب الرهيبة والجراح التي خلفتها، فإن محاولة الانقلاب التي لم يكن يتوقعها الشعب التركي أبدًا قد حملت معها خيرًا وفيرًا. فقد تحققت بين ليلة وضحاها روح الوحدة التي كنا ننتظرها جميعًا بين الشعب التركي، خطابات أحزاب المعارضة التي تدين الانقلاب وتدعم الحكومة أثبتت بوضوح أنه لا يوجد مكان في السياسة التركية لفكرة الانقلاب العسكري، الموقف الحازم الذي اتخذته المعارضة لا يزال قويًا.
ما زال الناس منذ تاريخ محاولة الانقلاب في الشوارع يحرسون الديمقراطية، وقد اتفقوا على ألا يحملوا أية أعلام خاصة بأي حزب؛ لأن هؤلاء الذين كانوا في الشوارع لا يمثلون الأحزاب، ولكنه الشعب التركي الذي وقف متحدًا. ومنذ اليوم الأول كان الناس حريصين على عدم المساس بروح التضامن. رحبت الميادين العامة بالناس دون تمييز بينهم على أساس الدين أو اللغة أو الجنس أو الرأي السياسي أو الأصل العرقي،.
ثم كان تماسك الشعب الذي قاوم محاولة الانقلاب.
واستمرارًا لحراسة الديمقراطية كان اجتماع الديمقراطية الذي دعيت إليه كافة الأطراف، والذي استضافه حزب الشعب الجمهوري، وهو حزب المعارضة الرئيسي، وقد ساهم هذا الاجتماع إسهامًا ملحوظًا في تعزيز الشعور بهذا التضامن. وكانت القمة التي عقدها الرئيس أردوغان في اليوم التالي مباشرة والتي دعا إليها في نفس الوقت جميع قادة الأحزاب علامة بالغة على سيادة روح التوافق. بعد هذه القمة كان هناك تأكيدٌ على روح الوحدة والتضامن، وتم إبراز هذه الوحدة باعتبارها المصدر الأكبر للقوة وعلامة واضحة على أننا قد عبرنا مرحلة محورية.
لا ينبغي أبدًا أن ننسى هذا: الأفعال الدنيئة كالانقلابات التي تنال من الإرادة الحرة للشعب تستمد قوتها من الخصومات والشقاقات داخل المجتمعات. وجود الأشخاص الغلاظ قساة القلوب وعديمي المشاعر داخل المجتمع يوفر دائمًا الأساس اللازم لمدبري الانقلابات؛ لأن مدبر الانقلاب يسعى للاستيلاء على السلطة باستخدام القوة الوحشية والتسبب في سفك الدماء وهو ما تستلزمه هذه القوة الغاشمة، وتوفير هذه البيئة التي يتعطش إليها يفتح الأبواب لأخطار جسيمة.
وبعد أن مرت هذه التجربة، من الآن فصاعدًا يتعين على تركيا العمل بدهاء أكبر وحذر شديد. بالتأكيد ينبغي لنبرة التوافق الجديدة التي عبر عنها السياسيون أن تستمر وتعلو. ينبغي ألا يُسمح على أي حال بخطابات التعصب المريرة. ينبغي ألا ننسى أن مثل هذه اللهجة تضر بالشعب وبالديمقراطية تمامًا مثل تمكين الذين يسعون للإضرار بتركيا. وتحقيقًا لهذه الغاية ينبغي لاجتماعات الوحدة - والتي كانت انطلاقة جيدة - أن تستمر بشكل حتمي.
سيكون من الرائع - لا سيما بالنسبة للحزب الحاكم - أن يهدف إلى تبني سياسة من شأنها أن تساعدهم ليس فقط على كسب جمهورهم هم، ولكن أيضًا على اجتذاب جمهور المعارضة. ولتنفيذ هذه السياسة ينبغي على الحكومة ألا تخشى من فقدان جمهورها، لأن استمالة الأغلبية من الشعب سوف يحقق أعلى منفعة لتركيا وكذلك للحكومة. ينبغي لتركيا أن تصبح دولة يستطيع الناس أن يعيشوا فيها على اختلاف آرائهم في سلام ورفاهية، تبنّي أفكار ولهجة تجمع قلوب كل الناس سوف يُحدث أثرًا كبيرًا في تركيا وكذلك في المجتمع الإسلامي في جميع أنحاء العالم.
إنه لأمر مبهج جدًا أن نرى الناس تترك أعلام الأحزاب التي ينتمون إليها ويصرون على الوقوف معًا متحدين في الميادين العامة. ولكي تستمر هذه الروح يتعين على الشعب ألا يُعير الأصوات المسعورة أي اهتمام، وينبغي عليه إبداء رد فعل من شأنه تحويل أحاديث الشقاق إلى أخرى إيجابية. ومن الضروري جدًا حل المشكلات التي قد تؤدي إلى الصراعات والفرقة، وألا نفسح المجال لأية محاولات استفزازية من قبل الأشخاص الغاضبين. ينبغي ألا ننسى أنه سيكون هناك دائمًا في كل مجتمع أفراد يروجون للكراهية؛ والشيء المهم هنا هو تجاهل استفزازاتهم.
يزدهر نظام المسيح الدجال في الأجواء المشحونة بالكراهية، والحب هو العلاج الذي يقاوم هذا النظام. أثبت الشعب التركي للعالم كله أن الحب والوحدة لديهما القدرة على إحباط أية محاولة انقلاب بائسة وغادرة. في الواقع فإن الشعب التركي نفسه قد شاهد في ذهول كيف تستطيع قوة الاتحاد أن تحبط أي خطة شريرة. وأولئك الذين لم يكن لديهم قبل ذلك إيمان بقوة الحب والتضامن شاهدوا هذا بأم أعينهم. الكارثة التي كنا نعتقد في البداية أنها ضارة تحولت إلى نعمة.
المبدأ الذي سوف نتمسك به في المستقبل ينبغي أن يكون القضاء على الأسباب التي تؤدي إلى محاولة الانقلاب. تركيا التي تضع في أولوياتها التقدم والعلم والفن لن تخضع حتمًا لأية محاولة انقلاب. تمثل قوة وإرادة الشعب حاجزًا منيعًا ضد الانقلابات كما رأينا في الأحداث الرادعة التي وقعت في ليلة الخامس عشر من يوليو. ومع ذلك فإن الأمر يتطلب مجهودًا أكثر عمقًا للحيلولة دون وقوع انقلابات أخرى إلى الأبد، وإيجاد قاعدة صلبة يُبنى عليها، ولن يتحقق هذا إلا من خلال سيادة الأخلاق والتحرر والفن بما يتوافق مع روح الإسلام. المجتمعات التي حققت هذا مجتمعات تقدمية، تُحترم فيها كل الآراء، لا تسودها الكراهية، ولا تعرف الخصومات إليها سبيلًا. الانقلابات التي تحدث عادةً في العالم الثالث على سبيل المثال لا يمكن أن تجد لنفسها مكانًا بين هذه المجتمعات، إرادة الأمة التي تُبنى على هذه القيم لا يمكن أبدًا أن تكون ضحية لأي متربص.
http://www.harunyahya.com/en/Makaleler/226139/A-day-that-changed-Turkey