في القرن الثامن عشر حين سَعَت الجماعات والولايات للاتحاد لتكوين دول قوية مؤثرة كالولايات المتحدة الأمريكية، كانت الفكرة الأكثر انتشارًا في هذه الحقبة هي "الدولة"، استطاع هذا المفهوم الحفاظ على تماسك عناصر إمبراطوريات عظمى كالعثمانيين وصناعة نوع من الاتحاد الفكري والعقائدي بين الشعوب.
لكن حين التفتت أنظار قوى العالم في هذا الوقت للدول الضعيفة، ورأت فيهم أماكن صالحة للاستغلال، وحين قامت بعض الدوائر بتفسير الديمقراطية والحريات بطريقة خاطئة، تغير شيء ما للأسوأ. قُسِّمَت أوروبا مرات عدّة، أنشئت الدول على الخرائط باستخدام المساطر على أنقاض الدولة العثمانية وأراضيها السابقة، ثم أعيد تقسيم هذه الدول لدول أصغر، كل ذلك حدث بسبب إيمان بعض القوى بأن التقسيم سيخدم مصالحهم على الدوام.
بالتبعية بدأت المنظمات التي أُنشِئَت للعمل على عدم تكرار الحروب العالمية، بدأت هذه المنظمات في التركيز على فكرة جديدة وهي "الشعوب" وكانت الأمم المتحدة رائدة هذا الاتجاه. وبالتالي فإن المجتمعات التي اكتسبت تعريف "شعب" أصبح من حقهم اللجوء إلى الأمم المتحدة إذا ما تم اضطهادهم من قِبل سلطاتهم الحاكمة، وتلتزم الأمم المتحدة بمساعدتهم ودعمهم، كما تَبَنّى الاتحاد الأوروبي بعد فترة نفس الاستراتيجية، وقام المجلس الأوروبي بالموافقة على مشروع بعنوان "توفير السيادة" القائم على أن "حماية السيادة هو الشرط الأساسي لإنشاء أوروبا قائمة على مبادئ الديمقراطية".
اعتبرته أوروبا "شرطًا للديمقراطية"، بينما رأته الدول التي كونت الاتحاد الأوروبي كخطر، لذا كان قبول معظم الدول الأوروبية لهذا النص مشروطًا. بعبارة أخرى، قبلت الدول هذا المعنى، لكنهم خافوا من الانفصال، كما تم القبول المشروط لقوانين الأمم المتحدة أيضًا، للوقاية من الانفصال فقط.
الآن تُسْتَغَل فكرة "الشعوب المضطهدة" بأيدي الجماعات الإرهابية الشيوعية والجماعات الفاشية التي تأمل باستخدام العرقيات كورقة ضغط، والمجتمعات الأنانية التي لا تود مشاركة ثرواتها ومواردها. أما بالنسبة للشعوب المضطهدة فعليًا كالروهينجا، فهذه الحقوق والتوصيفات لا تسري عليهم في الحقيقة.
كما تراقب أوروبا عن قرب النتائج البغيضة لهذا القانون، وتستخدم أحوال الدول لمنع التقسيم، إذ لولا هذه الأحوال لَجُرَّت إلى طريق التقسيم والانفصال كل من كاتالونيا وباسكي في أسبانيا، ويلز واسكتلندا في المملكة المتحدة، فينيتو في إيطاليا، المجتمع الفلمكي الذي يضن بثرواته في بلجيكا، بالإضافة إلى جزيرة كورسيكا الفرنسية، مثلما حدث في تقسيم البلقان. لكن التقسيم يزيد الأمور تعقيدًا، وانفصال الهويات يؤدي إلى تحول المجتمعات التي عاشت سويًا إلى أعداء.
هذه هي طبيعة التقسيم، إن كان لدى أحد شك في ذلك، يمكنه أن ينظر إلى تاريخ الشرق الأوسط وأفريقيا، كيف تحولت المجتمعات التي عاشت سويًا لآلاف السنين إلى أعداء، وكيف أريق دم الإخوة. يبين ذلك مدى سهولة التخلص من روابط الأخوة رغم الجنسية، الدين والمعتقدات المشتركة.
ليست هذه هي الحرية ولا الديمقراطية، الديمقراطية هي القوة التي تجمع المعتقدات والأعراق معًا. الديمقراطية تساعد على تقوية أواصر الأخوة والاحترام بين الأفراد والمجتمعات. الديمقراطية لا تفرّق، بل على العكس تُوَحِد وتقوّي.
أساءت أوروبا والقوى العميقة فهم الديمقرطية، توقعاتهم بتقسيم الشرق الأوسط والتي ارتدت عليهم، يمكن أن تتحول إلى مشكلة عظيمة بالنسبة لهم، لكن ما زال في الإمكان وقف هذا الخطر قبل أن يمسي الوقت متأخرًا.
http://www.al-watan.com/