هارون يحيى
ابتدع العالم الغربي - على الدوام - العديد من العمليات واسعة النطاق – التي تتضمن تقديم المبررات والتلاعب بالرأي العام – وذلك لخداع الشعوب الغربية. ويشتمل ذلك على فكرة القيام بالحملات الصليبية لحماية الأراضي المقدسة والتخطيط لهدم الإمبراطورية العثمانية لاستئصال ما يسمى بـ "الأتراك البرابرة" من على مسرح التاريخ. استندت تلك الطموحات الإمبريالية والاستعمارية الوضيعة على ذلك التصور المغلوط بوجود أعراق أقل تحضرًا وتطورًا عن غيرها. أبقى نظام الانتداب الاستعماري على ضرورة وجود سُلطة فوقية، أكثر تحضرًا، لحكم المجتمعات التي يتفشى فيها الجهل الشديد ولا تستطيع حكم نفسها بنفسها. وقد كان الهدف – والذي كان من المفترض حدوثه – من العمليات العسكرية في أفغانستان هو تحرير البلاد، في حين أن الهدف من العمليات العسكرية في العراق كان القضاء على أسلحة الدمار الشامل. أرست هذه الادعاءات الكاذبة - التي ابتكرها القادة الغربيون لخداع شعوبهم - الأساس الفكري للدمار الهائل.
شرحت المقالات التي كُتبت بواسطة صامويل هنتنجتون منذ عام 1991 تاريخ القرن الـ 20 وذلك عن طريق الحروب التي جرت خلال تلك الفترة. وتوقع هنتنجتون أيضًا تلك الحروب المنتظر حدوثها خلال القرن الـ 21. وقد فسرت أعماله تلك الرسالة التي كان مفادها "إن تاريخ العالم بلغ تلك النقطة بحيث أصبح وجود الحروب والدمار أمرًا حتميًا". ووفقًا لهنتنجتون، فإن حروب القرن الـ 21 هي النتيجة الحتمية للجدلية التاريخية. وقد ساهمت وجهة النظر تلك في إزالة أي نوع من أنواع الحساسية تجاه ارتكاب المجازر بحق ملايين البشر، وقتل وذبح الأبرياء.
لقد كان هنتنجتون جزءًا من المؤسسة السياسية التي صاغت سياسات الولايات المتحدة منذ عام 1948. لقد كان هنتنجتون هو نفسه ذلك الشخص الذي أيد - للمرة الأولى - في إحدى مقالاته في مجلة فورين أفيرز، وهي المجلة الخاصة بمجلس العلاقات الخارجية، أيد استراتيجية القصف البساطي وحرق غابات فيتنام بواسطة النابالم والأسلحة الكيميائية الأخرى. أدت هذه الاستراتيجية إلى إسقاط ما يقرب من 7 ملايين طن من القنابل على فيتنام وتسميم البلاد بأكثر من 72 مليون لتر من المواد الكيميائية. وقد خلّف ذلك القصف وراءه مئات الآلاف من الجثث. وقد عمل هنتنجتون أيضًا كمستشار للديكتاتور البرازيلي ميديسي، وعمل أيضًا لصالح نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا وساعدهم في اعتماد السياسات التي من شأنها تعزيز القمع الاجتماعي هناك.
نُشر المقال الأول الذي طرح من خلاله هنتنجتون نظرياته بشأن الحروب بعنوان "صراع الحضارات" في مجلة فورين أفيرز. وقد تحدث في هذا المقال عن أنه مع انتهاء الحرب الباردة، فإن الحروب المقبلة لن تكون بين الأنظمة الملكية، أو الإدارات، أو الدول، وإنما ستكون بين الحضارات. ويزعم هنتنجتون في ذلك المقال أن "الإسلام" هو الخطر الأكبر الذي يهدد هيمنة الغرب على العالم. وبطبيعة الحال فإن الحرب الكبرى المقبلة للغرب ستكون حتمًا مع الحضارة الإسلامية.
نُشر مقال آخر لهنتنجتون، وذلك في أعقاب خروج نظريته القائلة بصراع الحضارات، في مجلة النيوزويك عام 2001 بعنوان "زمن حروب المسلمين". في هذه المقالة على وجه الخصوص، طور هنتنجتون، بشكل كبير، من نظريته المتعلقة بالغرب والإسلام. ويدّعي هنتنجتون في هذه المقالة أن العالم الإسلامي، والعرب على وجه الخصوص، يُكنون الضغائن والأحقاد، منذ زمن بعيد، للحضارة الغربية، والولايات المتحدة على وجه الخصوص.
ودلل هنتنجتون على مزاعمه بالقول إن من بين كل ثلاثة صراعات جارية في العالم يُشكل المسلمون طرفًا في اثنين منها على الأقل. إن النقطة الرئيسية التي يتحدث عنها المقال هي أن المسلمين مُولعون بالحرب أكثر من غيرهم، وبالتالي جعلوا العالم أكثر خطورة. فقد كانت هجمات 11 سبتمبر مجرد انعكاس لحروب المسلمين في الولايات المتحدة.
وتشير مقالة هنتنجتون إلى عواقب وضع المسلمين في مرمى انتقادات الغرب، ففي الـ 15 عامًا التي أعقبت تلك المقالة تم احتلال أفغانستان والعراق، وقامت ثورات في تونس ومصر، بينما غرقت سوريا وليبيا واليمن في الحروب الأهلية.
توفي هنتنجتون عام 2008 دون أن يرى هذه الأحداث ولكن ملايين المسلمين الأبرياء فقدوا حياتهم في حروب كان يدعمها هو أيديولوجيًا.
ويكمن الحل الذي اقترحه مقال "زمن حروب المسلمين" في اتحاد الدول المسلمة تحت قيادة واحدة مشيرًا إلى الإمبراطورية العثمانية. وفي أعقاب تلك المقالة، أصبحت العلاقات الوثيقة والصداقة التي جمعت تركيا مع بقية العالم الإسلامي مُقيّدة، لا شك أن هذا حدث بسبب ما عُرف عن تركيا وقدرتها على توحيد المسلمين، وهو ما جعل بعض الدوائر مُصممة على منع حدوث هذا الأمر.
على الرغم من ارتكاب تركيا بعض الأخطاء فيما يتعلق بسياستها الخارجية، فإنه وبلا شك - بالنظر إلى الصورة الأشمل - سيتضح أن المشكلة قد تم التخطيط لها بواسطة أحد العقول النجيبة. علاقة تركيا – اليوم – بباقي دول العالم الإسلامي لا تزال منقطعة اجتماعيًا وثقافيًا وحتى جغرافيًا، وعلاوةً على ذلك فهناك العديد من المحاولات لاجتذاب تركيا إلى الحرب. وإذا ما انضمت تركيا لأحد الصراعات القائمة، فإن تركيا وجميع الدول الإسلامية الأخرى ستفقد تلك السمات التي وحدتهم. وبما أن تركيا لم تقع في ذلك الفخ، فقد تم تجميد هذه الخطط على المدى القصير وذلك على أقل تقدير.
واليوم، فإن هنتنجتون لم يعد معنا. ورغم ذلك، فما زالت بعض الأقلام الأخرى مستمرة في كتابة المقالات لشرعنة الحرب والقسوة. هؤلاء المُنَظّرون هم نتاج لنظام التعليم المشوه القائم على تدريس أن الحرب ضرورية للتنمية البشرية، فهم يعتقدون في ذلك النظام القائل بأن الأقوى والأكثر أنانيةً سيتمكن من البقاء على قيد الحياة.
على الجانب الآخر، فلا بد من وضع آداب وقيم الإسلام - المتمثلة في التضحية بالذات، والتشارك، والصداقة، والوحدة، والتضامن – كمحور للتنمية. ويتمحور مستقبل العالم الإسلامي حول الوحدة، والتصرف الجمعي، والعمل على مكافحة تلك الألاعيب – بشكل منطقي وعقلاني – فكريًا. يمكن لذلك المناخ الذي تسوده الصراعات أن يتوقف فورًا إذا ما اتحدت الدول الإسلامية، وعملت مع بعضها البعض كالجسد الواحد قوي البنيان. وعلى عكس مزاعم هنتنجتون، فالمستقبل لن يكون لـ "زمن حروب المسلمين"، ولكنه سيكون "عصرًا ذهبيًا جديدًا للمسلمين"، وبالتالي سنكون أمام عصر ذهبي جديد للعالم أجمع.
http://www.raya.com/news/pages/e070513a-4b5d-42d3-8b68-d0bb51400ab8