بقلم: الكاتب التّركي هارون يحيى
بعد مخاض استمر لمدة قرن، نجد أن السياسة الخارجية التركية التي كانت متمركزة حول الغرب ومرتبطة به على نحو كبير، تحوّلت اليوم وسمحت للأتراك بإقامة علاقات جديدة وأكثر عمقا مع دول المشرق العربي. هذه الحركة تشبه عودة صديق انقطعت صداقته منذ فترة طويلة، فتركيا تستقبل جيرانها العرب ليس فقط من خلال خبرة مهمة جدّا في مجال تطبيق الديمقراطية، ولكن الأهم من ذلك في كيفية إنهاء الحكم العسكري.
كانت علاقة تركيا مع جيرانها العرب في أواخر فترة الحرب العالمية الثانية، محدودة جدّا. ولم يكن الأتراك مهتمّين كثيرًا بمسألة التواصل والتشارك مع المشرق العربي، وبالتالي نأوا بأنفسهم عن ذلك الجزء من العالم، واتّبعت سياسةٌ خارجية قصرت وجهتها على الغرب فقط. في غضون ذلك، كانت المناطق العربية تعج بالاضطرابات والتوترات، وسادت الحروب الأهلية والانقلابات العسكرية، كما كانت تئنّ تحت وطأة ظلم حزب البعث والديكتاتوريات الأخرى. ومن النّاحية الأخرى، حافظت تركيا بفضل حلفائها الغربيين، على حياة ديمقراطية مستقرة إلى حدّ ما، وأنشأت ثقافة ذات مصداقية أخلاقية وكسبت صوت العالم الغربي باعتبارها حليفا للنّاتو. وبعد ما يقارب القرن من القطيعة والانفصال، عادت تركيا في ظل حكم حزب العدالة والتنمية، لتبدأ في انتهاج سياسة خارجية مبنية على علاقات جديدة مع العالم العربي.
لم تصل تركيا ولا أيّ من البلدان الدّيمقراطية التي نراها اليوم إلى هذه المرحلة بين عشية وضحاها؛ فنحن الأتراك أيضا كان لدينا مد وجزر وأخذ وردّ في مجال الديمقراطية، وخضنا نحن كذلك مرحلة من الانقلابات والتدخلات العسكرية المتكررة في عمل السلطة المدنية. ولدينا تاريخ من الصراعات فُقد فيه عدد كبير من الشباب الناشطين بسبب الممارسات العسكرية القمعية. ثم جاء ذلك اليوم في الحياة الوطنيّة التركيّة الذي تمكن فيه الشعب من إزاحة أولئك الذين نصبوا أنفسهم مدافعين عن مبادئ الجمهورية وزعموا أنهم أوصياء على الشعب ليصبحوا خاضعين لحكومة مدنية منتخبة.
بالتأكيد تركيا لم تحقق ما حققته في وقت قصير، وهي كذلك لم تصل إلى النموذج المثالي لجمهورية ديمقراطية حقيقية، فنحن ما زلنا بعيدين عن الكمال. ومع ذلك، كانت هناك خطوات مهمة قطعتها تركيا على هذا الطريق، وهي مهمة جدا سواء بالنسبة إليها أو بالنسبة إلى جيرانها العرب.
التّطلع إلى العسكريين باعتبارهم "أوصياء"
بعد فترة طويلة من وجوده في الحكم، أصبح الجيش جزءا مثيرًا للإعجاب في المجتمع العربي، وليس قوة غريبة. فمعظم العائلات لديها واحد على الأقل من أقاربها يعمل بالجيش، وأفراد الجيش لديهم رواتب محترمة من شأنها أن تجعل العديد من المسئولين الحكوميين يحسدونهم على ذلك، لذلك يُنظر إلى العسكريين، من قبل غالبية المجتمعات العربية، على أنّهم في قمة الهرم الاجتماعي، هذه المجتمعات التي تفتح الباب أمام الاستعباد الطوعي من قبل الجيش.
في أغلب بلدان الربيع العربي، الجيش هو من يتحكم في الاقتصاد كذلك، وهو يملك المنازل والشركات، ويملك حسابات مالية في البنوك، وأحيانا يمتلك حتّى البنك نفسه. يجب التخفيض من مكانة الجيش لكي يصبح فرعًا من الخدمة الحكومية التابعة للشعب، وينبغي أن يكون له ميزانية معروفة وشفافة تماما مثل ما نراه في دول الأوروبية. أما بخلاف ذلك، فمثلما هو الشأن بالنسبة إلى المؤسسة العسكرية في مصر بقيادة السيسي، يستطيع الجيش بكل بساطة العبث بالاقتصاد وإسقاط زعيم منتخب من خلال حشد الغوغاء والنّاس الغاضبين في الشوارع.
في تركيا تم تطبيق برنامج اقتصادي قائم على الخصخصة، وقد ساعد ذلك على تعزيز فكرة تحكم الفرد في اقتصاد السّوق الحرة؛ وكان ذلك مفيدًا جدّا في المقابل، من حيث تطوير المجتمع المدني، الذي أصبح يعارض بشدة التدخلات العسكريّة.
التعليم هو المفتاح
من الواضح أنّ الخطوة الأكثر أهمية هي التعليم، فعلى عكس الاعتقاد الشائع، فإنّ القضايا المرفوعة ضد المسئولين العسكريين في تركيا مثل قضية "المطرقة" وقضية "28 فبراير"، وسجن بعض أفراد الجيش الذين تورطوا في التخطيط لشنّ انقلابات، كل هذه الخطوات ليست هي السبب وراء إنهاء الحكم العسكري في تركيا. في النهاية، لا يمكنك سجن الفكر، فإذا كان الاعتقاد الذي يدعم"الوصاية من قبل الجيش" ما زال سائدًا في المجتمع فإن هذه الأفكار سوف تقود إلى إسقاط أية حكومة بغض النظر عن عدد الأصوات التي حصلت عليها في الانتخابات. ولكن، ومن خلال التعليم المناهض للوصاية تمكّن المجتمع المدني التّركي من تغيير نفسه وَفقــدَ الثقة في الحكم العسكري.
في الوقت الذي أهدر فيه العالم العربي قرناً مليئا بالفتن والحروب الأهلية والتمرّد والتدخلات العسكرية والدكتاتوريات، كشفت لنا التّجربة التركيّة للديمقراطية الإسلامية شيئا مهما؛ فقبل خوض المعركة من أجل السّلطة، يجب أن نخوض معركة أخرى، وهي المعركة من أجل التعدّدية، وتقدير التنوع وتطوير الاحترام العميق والثابت للإنسان. يمكن للعرب أيضا السّير على نفس النهج وتقليص مراكز العسكريين ومواقعهم في السلطة وجعلها تابعة للسّلطات المدنيّة المُنتخبة؛ إنها مسؤولية من سينهض بهذه المهمّة، وفي أثناء ذلك يتعيّن التحلي بالصبر والقيام بالتربية الاجتماعية المُسبقة اللاّزمة من أجل تحقيق ذلك.