ما فتئت طبيعة القدر تثير نقاشات مطولة ومتضاربة عبر تاريخ البشرية، وكان أوضح تعريف للقدر هو أن الله خلق الكون والحياة وجميع الأحداث، سواء في الماضي أو المستقبل، في لحظة واحدة، وهذا يعني أن كل حدث منذ لحظة أن خلق الله الكون إلى يوم القيامة، قد وقع بالفعل وانتهى بعلم وإرادة الله.
لذلك، بالنسبة لله سبحانه عز وجل، الماضي والحاضر والمستقبل كلها شيء واحد، وكل شيء قد بدأ بالفعل واكتمل.
على سبيل المثال، سبق في علم الله كيف تنتهي حياة فرعون حتى قبل أن يولد موسى عليه السلام أو حتى قبل تأسيس الدولة المصرية، وهذا لأنهم خُلِقوا جميعا في لحظة واحدة أمام الله.
يُمكِن إدراك حقيقة القدر في آيات كثيرة من القرآن الكريم، منها على سبيل المثال، الآية 83 من سورة آل عمران حيث يقول المولى عز وجل « أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ» وبعبارة أخرى، ليس باستطاعة أي مخلوق أن يعارض إرادة الخالق، وكل حدثٍ يسير وفق القدر الذي سطره الخالق، ولا أحد يمكنه معارضة إرادة الله، وتأييده وأوامره.
أجرى جون ديلان هاينز، عالم الأعصاب في مركز بيرنشتاين لعلم الأعصاب الحسابي في برلين دراسة للنظر في ما إذا كان هناك أي اختلاف بين ظروف لحظة اتخاذ القرار والحركة التي ينطوي عليها القرار نفسه.
وتم استخدام أثناء هذه العملية، التصوير بالرنين المغناطيسي (MRI) لِمسح أدمغة الأشخاص الذين تم عرض أحرف أمامهم تظهر بشكل عشوائي على الشاشة، وطُلِب من المشاركين في الدراسة الضغط على زر بالسبابة اليمنى أو اليسرى في لحظة اختيارهم، وتَذَكُرِهم الحرفَ الظاهر على الشاشة عندما اتخذوا قرارهم، وفي الوقت نفسه، تم رصد نشاط دماغ المشاركين في التجربة.
وكانت نتائج التجربة مثيرة للدهشة إلى حدٍ كبيرٍ، حيث أظهرت هذه النتائج أن الأشخاص المشاركين في التجربة قرروا الضغط على الزر 10 ثوان قبل الضغط عليه فعلا، وتُبين هذه النتيجة العلمية المهمة أن اختيار الشخص سبق تحديده فعلا حتى قبل أن يقوم ذلك الشخص بعملية الاختيار.
وقد نُشِرت نتائج التجربة في مجلة ناتشر على النحو التالي «كان هناك جدل طويل حول ما إذا كانت القرارات «الحرة» المتخذة ذاتيا، محددة عن طريق نشاط الدماغ مسبقا، وتوصلنا إلى أن نتيجة قرارٍ مَا يمكن ترميزها في النشاط الذهني من قشرة الدماغ الجداري والقشرة الجبهية، بمدة تصل إلى 10 ثوان قبل بدء الوعي».
يُمكننا تقديم مثال من حياتنا اليومية، العمليات الفيزيائية والكيميائية الناجمة عن رد فعل سائق سيارة على طفل يجري في الطريق، تكون مهيأة في دماغ السائق قبل 10 ثوان من الحدث أصلا، أي قبل حتى وجود الطفل في الطريق.
من حيث الترتيب الزمني نجد التسلسل التالي: الرد في الدماغ أولا، ثم يليه جري الطفل في الطريق، والسؤال، كيف إذا يكون الدماغ مستعدا للحدث قبل حتى وجود الطفل في الطريق؟
تُظهر مثل هذه الحوادث العصبية الفسيولوجية أن رد الفعل لا يعتمد على رؤية الطفل، وقد قبِل علماء الأعصاب أن الإحساس الذي يجعلنا نشعر بأننا نتخذ خيارات هو مجرد فكرة لاحقة بمعناها البيوكيميائي، ولا علاقة لها بالتحرك المادي.
يقول باتريك هاجارد، عالم الأعصاب في كلية لندن الجامعية «نحن نشعر بأننا نختار، لكننا لا نفعل ذلك»، ويبوح هاينز بالاعتراف المتعلق بعدم وجود إرادة إنسانية حرة، يقول «كيف يمكنني أن أدعي أن الإرادة هي «إرادتي»، إذا لم أكن أعرف حتى متى وقعت وماذا قررت أن تفعل؟».
وتُبين نتائج كل هذه الدراسات العلمية وجود توجيه وإرادة تتجاوز العالم الفيزيائي والكيميائي الحيوي وأننا نعيش أحداثا تم تحديدها مسبقا.
إن الخيارات التي نتخذها ليست اختياراتنا، وإنما نُمنح الشعور فقط بأننا نتخذ قراراتنا بأنفسنا، فمن الواضح إذاً أن كل شيء قد سبق قضاؤه، وهكذا يوضح لنا الله الحقيقة التي لا جدال فيها أنه الخالق الأحد. يقول الله سبحانه في الآية 54 من سورة الأعراف: «إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ».
http://www.raya.com/news/pages/d57beed2-85d4-40cd-bc72-0c256a3fd684