تحقيق العدل مهما كان الثمن
ucgen

تحقيق العدل مهما كان الثمن

1493

كل مولود يولد على فطرة الحب، فالطفل الصغير لا يعرف التمييز بين عرقين أو عقيدتين مختلفتين ولا يشعر بالكراهية إزاء الآخرين. الكراهية شعور معقد عاطفيا، عادة ما يلقن من خلال التجربة الحياتية، مثلما هو الحال عندما يظهر شخص الكراهية تجاه شخص آخر، أو يتعلمها في طريق نموه ونضجه عبر مراحل الحياة. أما فكرة الحب وجوهره، فهو مستوحى أساسا من تعاليم الكتب المنزلة من الله سبحانه عز وجل إلى رسله الكرام، ويبلغ فؤاد الإنسان عبرها، مثلما تدلنا عليه القصص الواردة في محكم التنزيل. تروي لنا آيات التوراة والقرآن على سبيل المثال، قصة بالغة الأهمية عن خصام الشقيقين، قابيل وهابيل، وهي أول معركة بين أخوين، في تاريخ البشرية، وعندما نقرأ هذه القصة في التوراة، ندرك أن المعركة وقعت لأنهما لم يحاولا تسوية خلافهما عن طريق التواصل السلمي، فكانت نتيجة ذلك، جريمة قتل، ولو حاولا التغلب على الحالة الصعبة باستخدام الوسائل السلمية، لتمكنا من حل المشكلة بينهما.

المؤسف في الأمر، أن الشعوب والأقوام عاشوا أحداثا مماثلة على امتداد التاريخ، ولا زالوا إلى يومنا هذا يقعون باستمرار في فخ مماثل، على غرار تجدد التوتر بين العرب الفلسطينيين واليهود، وتفاقمه في الفترة الأخيرة. وقد احتدم الصراع في حرم المسجد الأقصى بين الشبان الفلسطينيين وقوات الشرطة الإسرائيلية، وبلغ ذروته ليهدد بانتشار لهيب الخلاف بين الجانبين. من المفروض ألا تقع أبدا أماكن العبادة رهينة الصراعات، ناهيك أن تتحول إلى مسرح للهجمات المسلحة، لأن القيام بأعمال عنف داخل بيوت العبادة لا يستقيم أخلاقيا وهو سلوك غير مقبول.

وقد كان أحد الأسباب وراء إثارة هذا القدر الهائل من التوتر، لجوء بعض المحرضين، بشكل متكرر، إلى استغلال الأماكن المقدسة، من خلال تلاعب بعض القادة السياسيين والدينيين والشخصيات العامة، واللعب على النقاط الحساسة لفئات المجتمع، لخدمة أجندة سياسية خاصة بهم.

إن الخطاب غير الواقعي والاستفزازي الذي يستخدمه هؤلاء الأشخاص - مثل قولهم إن الإسرائيليين يعملون على تدمير المسجد الأقصى - يدفع بالحشود وأتباعهم إلى الشوارع للتعبير عن سخطهم واحتجاجهم الجماعي، لذا من غير المعقول وغير المناسب استخدام المسجد الأقصى أداة للاستفزاز الديني، وهو أيضا جريمة خطيرة، في غير مرضاة الله، لأن هذه الادعاءات الطائشة التي لا أساس لها تؤدي أحيانا إلى سفك دماء الأبرياء.

إن تركيب أجهزة الكشف عن المعادن في مجمع الأقصى - بحجة حماية المسلمين واليهود على حد سواء - تم استخدامه ذريعة للتحريض على الاحتجاجات وإثارة أعمال العنف، ولم يكن في الواقع، سوى تلاعب سياسي، على حساب المدنيين الفلسطينيين والإسرائيليين، لينتهي بالدعوة إلى انطلاق الانتفاضة الثالثة، بهدف زيادة حدة التوتر القائم. وحتى هذه اللحظة، فقد تسببت هذه التصريحات الملتهبة في المزيد من المتاعب والخسارة بدلا من توفير حل للأزمة. ومما يؤسف له أن بضعة شباب من الفلسطينيين يقومون بتنفيذ أعمال عنيفة - من طعن الأبرياء حتى الموت، أو دهس الناس عند نقاط وقوف الحافلات، أو رشق السيارات بالحجارة - بدافع الغضب. وتكون نتيجة هذه الأعمال، إلحاق الضرر في نهاية المطاف بجميع المسلمين الأبرياء وغير المسلمين الذين يعيشون في المنطقة، وما دام هؤلاء المحرضون يواصلون ممارسة استخدام أساليب وحشية، ستتحول هذه الأحياء إلى مكان لا يرغب ولا يمكن لأي مسلم العيش فيه.

تتحمل الحكومات الإسلامية والقادة الدينيون والسياسيون مسؤوليات كبيرة، تفرض عليهم اتخاذ احتياطات جادة لمواجهة تفاقم انتشار هذه العقلية المتعصبة التي تعمل على غرس بذور التطرف في نفوس كل من يحيط بهم، والنتيجة، أن الذين ينزعون إلى التطرف، لا يترددون عن طعن كل يهودي يصادف طريقهم دون أي تمييز. ومن واجب الحكومات أن توجه شبابها وتعلمهم سلوكيات المحبة والاحترام، التي تضمن الحماية لإخواننا اليهود. وينبغي وقف كل ما ينشر من المواد المعادية لليهود على شبكة الإنترنت وعلى شاشات التلفزيون وغيرها من الأماكن، وتقع على عاتق كل مسلم مسؤولية تحقيق العدل والإنصاف مهما كان الثمن، مثلما يبينه لنا الله سبحانه عزل وجل في كتابه العزيز من خلال دعوة المؤمنين، في الآية 135 من سورة النساء: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ۚ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَىٰ بِهِمَا ۖ فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَىٰ أَنْ تَعْدِلُوا ۚ وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا".

والآية 8 من سورة المائدة "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ۖ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ".

وثمة سبب آخر وراء توسيع رقعة الأعمال العنيفة، متمثلا في التغطية الإعلامية المضللة التي تعرض الوقائع بطريقة مشوهة للغاية، وهكذا توظف النفوس المملوءة بالبغض، الميالة إلى العنف والكراهية، هذه المعلومات المنحازة لتبرير أعمالها الشنيعة، في حين يحذر الله المؤمنين من هذا التهديد، في التوراة والقرآن (الآية 6 من سورة الحجرات) بنفس الطريقة "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ".

"لا تنشر تقارير كاذبة، ولا تساعد رجلا شريرا من خلال تقديم شهادة مزيفة، ولا تتبع الحشود أثناء قيامها بأعمال شريرة، فعندما تدلي بشهادتك أمام القاضي، فلا تضلل العدالة عن طريق الانحياز إلى الحشود". (الخروج، 23 : 1-2).

لذلك، يتعين على المسلمين الاحتراس واليقظة من الوقوع في فخ أولئك الذين يحرضون على الاقتتال بين اليهود والمسلمين لأن الدافع الحقيقي للمحرضين هو إراقة الدماء وهلاك المتدينين من المسلمين واليهود والتخلص منهم من الأرض المقدسة. وقد واجهت تركيا في الآونة الأخيرة، نتيجة تغطية إعلامية مسعورة مماثلة، اضطرابات هي في غنى عنها، نجم عنها لسوء الحظ، هجومان في إسطنبول استهدفا كنيسين في أعقاب اشتباكات الأقصى؛ الأول في كنيس نيف شالوم، والثاني في كنيس بلاط أهريدا، أقدم كنيس في تركيا. يجدر بالمحرضين أن يعرفوا أن شن هجماتهم على أماكن العبادة ليس عملا بطوليا بل عملا غير أخلاقي، فضلا عن تحريم الله سبحانه عز وجل في كتابه العزيز الاعتداء على جميع أماكن العبادة - من كنائس ومعابد اليهود والمساجد - التي تعتبر مقدسة ولا يجوز المساس بها وتقتضي حمايتها، يقول المولى عز وجل في الآية 40 من سورة الحج: "لَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ ۗ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا ۗ وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ"، ولهذا فلا بد من حماية جميع أماكن عبادة إخواننا اليهود، مثل كنيس نيف شالوم. 

يعد السلام هدفًا أساسيًا في الإسلام، فمن الضروري التوصل إلى تسوية بين الأطراف المتنازعة، لكننا نلاحظ اليوم للأسف، تفضيل بعض المسلمين الانخراط في أساليب عدوانية يزعمون أنهم يقومون بها وفقا لتعاليم الإسلام وتحت رايته، فبعضهم يرتكب جريمة قتل ومنهم من يستخدم التفجيرات الانتحارية ثم يبررونها كحرب مقدسة، وهم بذلك يرتكبون خطيئة جسيمة في نظر الله، ومعظم هؤلاء المسلمين يجهلون أن أفعالهم منافية لتعاليم القرآن الكريم.

يقع هؤلاء الجاهلون ضحية خداع باسم الدين، حيث تحل الكراهية محل الحب والغضب محل الرحمة، والعداء محل الأخوة، والجهل محل الفن والجمال والثقافة، ولهذا فمن السهل إيقاع هؤلاء الناس وإثارة عاطفتهم من خلال وضع بندقية أو سكين في أيديهم لقتل أشخاص من ديانات أخرى. إن إدانة أفعال هؤلاء المتطرفين عديمة الجدوى ومن دون تأثير عليهم، لأن المشكلة الحقيقية أعمق، كونهم ضحايا عمليات غسيل الدماغ عن طريق حقنهم بعقيدة الغضب الأعمى بدلا من تعاليم القرآن، ومن ثم، إذا أردنا فعلا الوصول إلى الحل الناجح، فلا بد مواجهة هذه الأكاذيب عن طريق توعيتهم وتعليمهم التعاليم الصحيحة للقرآن الكريم.

فلا مناص من استبدال المعتقدات الخاطئة بالمعتقدات الموثوقة، للقضاء على العواقب الوخيمة الناجمة عن الانحرافات عن السبيل القويم. في الواقع، نجد أن كلا الجانبين يعاني في نهاية المطاف من مأساوية الوضع، وينبغي على الجميع  أن يدركوا ما هو هدفهم الحقيقي ويتيقنوا أنهم مسؤولون عن جميع أعمالهم، وحري بهم معرفة أنهم لن ينعموا بالسعادة أبدا من خلال القتل والاضطهاد، وعليهم بدلا من ذلك السير على طريق الحب والمودة والتضحية من أجل الآخرين والعيش لتحقيق هدفهم الحقيقي، فعندئذ فقط سيحققون السعادة.

http://www.jpost.com/Opinion/Being-just-at-all-costs-500844

يشارك
logo
logo
logo
logo
logo