هارون يحيى
منذ زمن ليس ببعيد، ربما منذ ما يقارب العشر سنوات فقط، لم نكن نتصوّر أن تتمّ إعاقة الهاربين من بلادهم أثناء عبورهم الأراضي الحدوديّة، أو أن تقوم الأمواج بجرف وغسل جثث الأطفال على الشواطئ. لم يكن قصف منازل العزّل، والمستشفيات والمدارس والمخابز والمحلّات التجارية، جزءًا من الحرب كما نراها اليوم. أمّا في حروب القرن الـ 21، فقد صار المدنيّون هم المستهدفين الوحيدين تقريبًا.
لقد لفت الإعلام أنظار الناس إلى مجاعة مضايا، لقد عانت هذه المنطقة التي أنهكها الجوع، من حصارٍ منهكٍ لمدة سبعة أشهر، فرضته جماعات المعارضة من الداخل وحزب الله وقوات النظام من الخارج. المحزن في الأمر، أنّ المحاصرين عليهم أن يموتوا قبل أن يبدأ العالم بملاحظة الأمر.
لا يختلف الوضع كثيرًا في القرى المجاورة، وبالرغم من أنّ المساعدات قد وصلت حديثًا، إلّا أنّ الوضع في قريتَي كفريا والفوعة الشيعيّتين على بعد حوالي 7 كيلومترات من شمال إدلب، لا يزال قاتمًا. قال المتحدث باسم الصليب الأحمر الدولي في سوريا "باول كرزيسياك"، والمكلّف بإيصال المساعدات الإنسانية إلى مضايا والقرى النائية، قال إنه قد رأى العديد من الناس في الشوارع، بعضهم يبتسم ويلوّح لهم، وآخرون كثيرون في غاية الضعف.
لقد بات الأمر اعتياديًا بالنسبة لكثيرٍ في هذا العالم، ألا يتأثروا بمثل تلك المآسي، بينما آخرين يحاولون جاهدين نشر مفاهيم المساواة بين البشر، وأنّ لكل إنسانٍ الحقّ في الحياة. المشكلة هي أنّ البعض لم يؤمنوا يومًا بأنّ لكلّ إنسانٍ الحقَّ في الحياة. طبقًا لمنطقهم المرعب، فإنّ الحرب هي وسيلةٌ للتطهير الطبيعي الذي يجب فيه التخلص من الضعيف، لذا فهم لا يرون فارقًا كبيرًا من أن يتمّ التخلص منهم غرقًا في البحار، أو قصفًا في الأسواق، أو الموت جوعًا.
في الواقع، لم تسفر التحالفات ولا المؤتمرات الدولية ولا المساعدات الإنسانية عن النتائج التي نرغبُ بها، إنّنا بحاجةٍ جليّةٍ إلى اعتماد استراتيجيّةٍ جديدة، فالمشكلة أكبر بكثيرٍ من اندلاع الحروب، المشكلة هي نسيان الإنسانية.
ما يجب فعله قبل كل شيء، هو فضح الانتهاكات. إذا تمّ فضح الأعمال الوحشيّة على نطاقٍ واسع، فهذا كفيلٌ بمنع انتشارها. من الممكن ألا يساهم هذا في منع تلاحق الانتهاكات الوحشية، بيد أنّ ردود الأفعال الدوليّة قد تؤدّي بطريقةٍ ما إلى اقتلاع تلك الوحشية من جذورها.
ثمّة أمر مهم آخر، وهو المفاوضات التي ستجري مع الجانبين بشأن إخلاء المدنيين في حالات الطوارئ من المناطق المعنية. فقضية حماية المدنيين، هي قضية حقوق الإنسان التي يجب أن تهمّ العالم بأسره، أمّا ترك القضيّة بحجّة أنّها شأن داخلي، أو الفشل في أخذ الاحتياطات اللازمة، فهذا يعني أنك قد صرت جزءًا من المأساة. يجب على الفور اقتراح آليّة لضمان الإخلاء الفوري للمدنيين من المنطقة، وإرسالهم إلى الحدود اللبنانية، بدعمٍ من روسيا إذا لزم الأمر.
أمّا مسؤوليتنا نحن والتي لها أهميّة بالغة، فهي تطوير لغة الإقناع، لتذكير الناس بالقيم التي قد نسوها. نحن بحاجةٍ إلى بذل الجهود للقضاء على اللغة السياسية التي تسود بين الساسة ولغة الكراهية المنتشرة في وسائل التواصل الاجتماعي. إذا لم نفعل ذلك، فسيبدأ البعض في نسيان مفهوم الإنسانية بصورةٍ أكبر، وسيصبحون أكثر قسوة وعديمي الإحساس. بإمكاننا منع حدوث ذلك، فطريقة التفكير الماديّة التي تعتقد بحاجتنا إلى التخلص من الضعاف، قد ألحقت بنا ما يكفي من الأضرار. يجب أن نكثّف الحديث عن أنّ الله قد خلق جميع البشر متساوين، وقد خلقهم على أساسٍ من الحب والرحمة. علينا ألّا نستسلم أمام العالم، أمام المزيد من الكراهية والقسوة.