هارون يحيى
لا زالت أوروبا متمسكة ببعضٍ من القيم الحميدة. ومع ذلك، فقد وجدت القارة نفسها، في الآونة الأخيرة، على خط النار. الواقع في أوروبا أصبح كئيبًا ومشؤومًا نتيجة لتفاقم الأزمات الاقتصادية، والممارسات المُجحفة تجاه اللاجئين، وزيادة الاضطرابات في المجتمع الأوروبي، والدعوات التي تنادي بتقسيم البلدان، وتصاعد العنصرية بمعدلات خطيرة للغاية. والسبب الأساسي وراء ذلك هو الابتعاد التدريجي لجزء لا بأس به من الشعوب الأوروبية عن القيم الروحية.
وقد خرجت علينا في الآونة الأخيرة بعض الإحصاءات كبرهان على ذلك الوضع المتردي. ومؤخرًا، فقد اضطرت بعض الكنائس في ألمانيا، وإنجلترا، ودول شمال أوروبا إلى غلق أبوابها، بينما تم تحويل بعضٍ منهم لملكيات خاصة وهو الوضع الذي يُمكن أن يوصف بالمفجع على أقل تقدير. ووفقًا لسجلات الكنيسة البروتستانتية الألمانية، فقد دُمر ما قد يصل مجموعه إلى 82 كنيسة في جميع أنحاء ألمانيا خلال فترة ما بين الأعوام 1990 و2011، وقد انتقلت ملكية أكثر من 200 كنيسة بروتستانتية لبعض الأشخاص، الأمر الذي ساهم في تحويل تلك الكنائس لتصبح إما ملكية خاصة أو أن يتم تحويلها بشكل مُريع لتصبح عبارة عن مطاعم، أو أندية، أو ورش للنحت، أو مطاعم للبيتزا، أو مراكز لإقامة الأحداث التفاعلية.
ووفقًا للبيانات نفسها السالف ذكرها، فقد هجر ما يقرب من 67 ألف شخص كنسية السويد خلال العام الماضي، وتفيد بعض التقارير أن عدد من هجروا الكنسية خلال الـ 15 عامًا الماضية قد وصل لحوالي مليون شخص، وقد تم تحويل كنيسة سانت جوزيف في هولندا، والتي تسع حوالي 1000 شخص، إلى صالة ألعاب رياضية نتيجة للنقص الذي حدث في تجمعات المُصلين، الأمر الذي يُعد بمثابة الضربة القاسية للجانب الديني، ويُعد ميل جموع المواطنين نحو الإلحاد هو السبب الرئيسي وراء غلق تلك الكنائس.
وقد كشفت إحدى الإحصائيات الحديثة التي أُجريت في إنجلترا عن الحجم الكارثي لهذا السيناريو الكابوسي الذي يطارد أوروبا. ووفقًا لتلك الإحصاءات، فقد بلغت نسبة من لا يعتنقوا أيًا من الأديان داخل إنجلترا حوالي 48.8%، وهي نسبة أعلى من عدد المسيحيين داخل البلاد. من المُلاحظ أن النسبة السابق ذكرها كانت 25% فقط في عام 2014 وفقًا لإحدى الدراسات التي أُجريت آنذاك وهو ما يعني أن النسبة قد تضاعفت في ظرف عامين فقط.
ووفقًا لما ذُكر في التقرير، فإن 4 من بين كل 10 بالغين، من أولئك الذين نشأوا كأنجليك وكاثوليك، يُعرّفون أنفسهم الآن بعدم اعتناقهم لأيّ من الأديان، ورغم إهمال اسكتلندا أثناء القيام بذلك الاستطلاع إلا أن هناك بعض التقارير المنفصلة، والتي صدرت خلال الشهر الماضي، تُفيد بعدم اعتناق 52% من مجموع الشعب لأيّ من الأديان - أو ما يُعرفون بالـ nones - مقارنةً بـ 40% خلال عام 1999.
وبشكل عام، فقد وصلت نسبة من يصفون أنفسهم بالمتدينين في هولندا إلى 26%، وفي جمهورية التشيك إلى 23%، و%19 فقط في السويد.
وبينما تزداد أعداد المتدينين حول العالم، فإن هناك بالتأكيد بعض الأسباب الهامة وراء حدوث العكس في أوروبا. ارتكبت أوروبا العديد من الأخطاء خلال تعريفها للقيم الأساسية للديمقراطية والعلمانية، تعتبر أوروبا أن العلمانية تساوي الإلحاد - متناسين أن العلمانية تشير إلى التحرر من جميع أشكال الإيمان - وفيما يخص ذلك الأمر، هناك اعتقاد منتشر داخل المجتمع الأوروبي بأنه كلما زاد مستوى العلمانية فإن هذا يعني ضمنيًا ازدياد معدلات الإلحاد.
ذهبت المعاني الحقيقية لبعض المفاهيم الأساسية كحقوق الإنسان والحرية أدراج الرياح وغرقت - إلى حدٍ كبير - في غياهب النسيان. نجحت المنظمات الإرهابية في أن تجد لنفسها موطأ قدم داخل أوروبا تحت مظلة "الحرية"، ويأتي هذا في الوقت الذي تسلل فيه الانحطاط الشديد والانحرافات الجنسية إلى المجتمعات الأوروبية تحت مسمى "حقوق الإنسان". تسبب الزخم الناتج عن التشاؤم والكآبة في حدوث حالة هائلة من انعدام المحبة، والوحدة، والإلحاد، ومحاولات الانتحار بين المجتمع الأوروبي بشكل عام، وفئة الشباب الأوروبي على وجه الخصوص.
إذاً، فما السبب الرئيسي الذي أدى لحدوث تلك الحالة؟
التركيز على الفلسفة المادية وتنشئة عقول الشباب استنادًا لتلك الفلسفة - تحت ستار العلم - داخل أوروبا، وإنجلترا على وجه الخصوص، هو السبب وراء حدوث تلك الحالة. لا شك في حتمية حدوث المزيد من التباعد بين القيم الأخلاقية، والإنسانية، والاجتماعية وبين تلك المجتمعات التي تبتعد عن الأديان.
ينبغي على أوروبا الآن التعامل مع تلك الحالة، بالغة الأهمية، من الكآبة والتشاؤم بشكل جدي للغاية، واتخاذ بعض الاحتياطات العقلانية، والعلمية لضمان حدوث المزيد من التحسن والتطوير فيما يتعلق بالجانب الروحاني. ستتمكن المجتمعات من تطوير نفسها وتحقيق السعادة بمجرد تعزيزها لذلك الجانب المتعلق بالقيم الروحية. ينبغي على أوروبا أولًا الانتباه لتلك الحقيقة وذلك إذا ما كانت تطمح لإحداث المزيد من الازدهار فيما يتعلق بالشق الديمقراطي.
2. http://www.theguardian.com/world/2015/apr/12/uk-one-of-worlds-least-religious-countries-survey-finds
http://www.raya.com/news/pages/91bb4809-8d8e-460a-8857-258770660af2