لا يتوقف الأمر على الأوكسجين فقط، فالغازات الأخرى مثل النيتروجين وثاني أكسيد الكربون أيضًا قد أُعِدا بكميات مثالية لاحتياجات الكائنات الحية ولاستمرار الحياة. كمية النيتروجين في الغلاف الجوي هي النسبة المثالية لتوازن آثار حرق الأوكسجين مع أضراره. هذه النسبة تُمثل القيمة اللازمة والأنسب للتركيب لعملية البناء الضوئي، التي تُعتبر جوهر طاقة الحياة على الأرض. بالإضافة لذلك، كمية ثاني أكسيد الكربون هي القيمة الأنسب اللازمة للحفاظ على استقرار حرارة سطح الأرض ولتعيق خسارة الحرارة وخصوصًا في الليل. هذا الغاز يُؤلف 1% من الغلاف الجوي، ويغطي الأرض كلحاف أو كدرع يقي من خسارة الحرارة في الفضاء. إذا ازدادت هذه الكمية، ستزداد درجة حرارة الأرض بشكل مفرط، وهو ما قد يؤدي لتقلب مناخي والتالي إلى تهديدات خطيرة ضدّ الكائنات الحية.
يظل هذا التناسب ثابتًا بفضل النظم الكاملة. فالنبات الذي يغطي الأرض يحوِّل ثاني أكسيد الكربون إلى أكسجين، منتجًا 190 مليون طن كل يوم. وكذلك التناسب بالنسبة لباقي الغازات التي تبقى ثابتة في الأرض بمساعدة ترابط الأنظمة المعقدة. إذًا الحياة مدعّمة. بالإضافة إلى ثبات النسب المثالية من امتزاج الغازات اللازمة للحياة، فإن الآلية اللازمة للحفظ والحماية قد خلقت معه وأي توقف في هذا التوازن ولو للحظة أو أي اختلاف في النسب ولو لمدة قصيرة سيؤدي إلى دمار كبير في الحياة. كما أن تشكيل هذه الغازات هي تمامًا الكمية التي نحتاج، والحماية الدائمة لهذه النسب تشير إلى إبداع الخلق.
|
وفي نفس الوقت، حجم الأرض هو الحجم المثالي من حيت الكتلة لتتمسك بغلافها الجوي. إذا نقصت هذه الكتلة قليلاً ، ستكون قوة الجاذبية غير كافية وسيتبدد الغلاف الجوي الفضاء. أما إذا ازدادت كتلتها قليلاً، فإن قوة الجاذبية ستزداد بشكل كبير وستتشرب الأرض كل الغازات الموجودة في الغلاف الجوي. هناك عدد كبير لا يصدق من الشروط اللازمة لتشكيل الغلاف الجوي كما هو موجود في عالمنا الحاضر وكل هذه الشروط يجب أن توجد معًا لكي نكون قادرين على أن نتحدث عن الحياة.
ولقد ذُكِرَ خلق هذا التناسب الدقيق وهذا التوازن في السماء في الآية السابعة من سورة الرحمن في القرآن الكريم قال الله تعالى: {وَالسَّمَاء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ
يقضي معظم الناس حياتهم غير مبالين بالتوازن الدقيق والانضباط البارع في المكونات الغازية للغلاف الجوي أو المسافة بين الأرض والشمس أو حتى حركة الكواكب. إنهم يجهلون عظمة المعنى لهذه التوازنات والتوافُقات في حياتهم. بينما أن أي خلل مهما يكن صغيرًا في أي من هذه التنظيمات سيتسبب بمشاكل قاسية فيما يتعلق بوجود وبقاء الجنس البشري.
هناك كثير من التوازنات الأخرى التي وجدت على الأرض لأجل المجتمعات الحية. على سبيل المثال، إذا أصبحت الجاذبية أقوى من القيمة الحالية، سيحتفظ الغلاف الجوي بكثير من غاز الأمونيا وغاز الميتان السامين، وهو ما يعني نهاية الحياة. أما إذا أصبحت أضعف، فإن الغلاف الجوي للأرض سيخسر الكثير من الماء، والحياة على الأرض ستصبح مستحيلة. كما أن سُمك القشرة الأرضية يحوي نوع آخر من التوازن الدقيق في الأرض. فلو كانت القشرة الأرضية أسمك، لانتقل الكثير من الأوكسجين من الغلاف الجوي إلى القشرة الأرضية وهو ما كان سيسبب إلى تأثيرات خطيرة على الحياة البشرية.
أما إذا تحقق العكس وكانت القشرة الأرضية أرقّ، لكانت البراكين قد نشطت وعندئذٍ سيكون من الصعب أن توجد حياة. وأيضاً، التوازن في طبقة الأوزون في الغلاف الجوي هو أمر حاسم في حياة البشر، لأنه إذا كانت أقل سمكًا مما هي عليه حاليًا، لأصبحت حرارة سطح الكرة الأرضية ستكون مخفضة منخفضة جدًا. أما إذا كانت أرقّ بقليل فإن حرارة سطح الأرض ستكون مرتفعة جدًا، وسينفذ الكثير من الأشعة فوق البنفسجية.
في الحقيقة، إن فقدان حتى واحد فقط من هذه التوازنات سيضع نهاية للحياة على الأرض. ومن ناحية أخرى، لقد خلق اللهُ الكون بحكمته وقوته المطلقة، وصمم الأرض خصيصًا للحياة البشرية. ومع ذلك فإن معظم الناس يستخفـّون بهذه الحقائق ويمضون معظم حياتهم جاهلين بهذه الوقائع. في القرآن الكريم ذكـّر الله الناسَ بنعمتهِ وفضله في الآية 13 من سورة فاطر: {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُّسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ }
وبنظرة سريعة لملايين الكواكب الميتة في الفضاء سيظهر أن التوازن الدقيق الضروري للحياة ليس نتيجة لشروط عشوائية. فهذه الشروط اللازمة للحياة معقدة جدًا و لا يمكن أن تتكون من تلقاء نفسها أو عن طريق الصدفة، وهذه الشروط خاصة للحياة فقط. إن هذه التوازنات التي قد وصفناها بإيجاز حتى الآن ما هي إلا غيض من فيض ملايين التوازنات المترابطة والمعقدة، وبوجودها استطاع الناس الحياة في أمن وطمأنينة على الأرض.
إن إظهار جزء فقط من التوازن والتناغم على الأرض يكفي للاستدلال على عظمة الله الذي بيده كل خلق كل شئ حتى أدّق تفصيل في الكون، وبدون شك إن من المستحيل لأي شخص أو أي كائن حي أخر آخر أن يبني مثل هذا التوازن الهائل، ولا حتى جزء صغير منه كالذرة أو العناصر أو الجزيئات أو الغازات التي تحتاج إلى إنشاء ترتيب يعتمد على حسابات ومعايير معقدة إلى أبعد الحدود، مثل جودة المخلوقات الموجودة. ذلك لأن الأعمال كالتخطيط والتنسيق والتدبير والحساب يمكن أن تحَقق فقط بالكائنات التي تملك الحكمة والمعرفة والقدرة. لكن من رتب وخطط ونظم الكون بأسره ليناسب الحياة البشرية على كوكب مثل الأرض ومن دعّم الحياة باتزان وتناسب دقيق تلقائي هو الله من له الحكمة والعلم والقوة اللانهائية الذي يخبرنا في القرآن أن من له عقل هو من يستطيع أن يدرك هذه الحقائق، قال تعالى: إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب * الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار}