بقلم: هارون يحيى
إن الحدث الفضيع الذي حصل في أنقرة هو عملية مجهولة المصدر، وهي شبيهة بتلك العمليات التي ضربت من ذي قبل ديار بكر وسوروتش. كما أن الفشل في التعرف رسميا على المعتدي أضحى عاملاً يغذي الاستقطاب الذي جُرَّت إليه البلاد جرًّا. وتمكن الصحفيون والسياسيون من التعرف عموما على المعتدي حسب الآراء السياسية التي يُساندونها أو يعارضونها. وكانت نتيجة الاستناد لهذا التّصور بالذات ولادة لصراع آخر لا يكتسي طابع الجَدوى.
وكنتيجة لذلك، فإن الالتجاء إلى التّحاليل العلميّة الأساسية كاف لفهم مرتكبي هذا الهجوم الفضيع من وجهة نظر تاريخ الجُمهرية التركيّة. وكان الغرض المقصود منه رجوعًا إلى طبيعة هذه العمليّة ونتيجتها استهداف العامّة وكشفت دائرة التأثير النّقاب عن معطيات شاملة تخص الأفراد الذين تمكنوا من القيام بهذه الأعمال. وبطبيعة الحال ينبغي القيام بدراسة تقييمية لتاريخ البلد أيضا مع الأخذ بعين الاعتبار هذه المعطيات.
فدعنا ندرس هذه التجارب:
وعَلى عكس ما شهدته البلدان الاسلاميّة الأخرى، فإن تركيا ومنذ أربعين سنة لا تزال تكافح الإرهاب الشّيوعي بدلاً عن الارهاب المتطرّف. ولهذا السّبب فإنّ تجاربها تختلف عن تجارب البلدان الأخرى. ويصرّح الإرهابيون المتطرفون عن العمليات التي ينفذونها بكل دقة، وعلى رأس الملأ بينما يرتئي الارهابيون الشيوعيون بث معلومات خاطئة واعتماد سياسة التخفّي. وحسب المَبادئ التي يقوم عليها الارهاب المتطرف، فإن منفذي العمليات الانتحاريّة هم متطوعون وأملهم الوحيد دخول الجنّة. ولكن الإرهاب الشيوعي من جهة أخرى يعطي المتفجرات لأشخاص معيّنين يتمّ تفجيرها بتقنية التحكم عن بعد، وهذا ما حدث بالضّبط في هجوم أنقرة.
وبالرغم من أن بعض المنظمات الارهابية قامت بهجومات في فترات متفرقة من تاريخ تركيا، فإن المعركة الحقيقية كانت دائما تندلع ضد حزب العمال الكردستاني (PKK). ومن خلال تاريخها الارهابي، تستخدم منظمة الإرهاب الشّيوعي هذه المدن الكبيرة كـ"حل أخير". وحالمَا تتيقين أنها مُنيت بالهزيمة، وأنها فقدت كل مناصريها، فإنها تراجع عن عمليات العنف التي ترتكبُها. وكما هو الحال عند "ماو"، الذي يعتبر أن وقف إطلاق النار عملية تكتيكية للحرب لا للسّلم، فإن زعماء هذا التنظيم يشرعون أولا في الكلام عن وقف إطلاق النار، وسُرعان ما ينفّذون عمليات دموية مجهولة. وتستهدف عمليات العنف المجهولة هذه عموما مناصريهم والمتعاطفين معهم وأولئك الذين يتقاسمون معهم الإيديولوجيا نفسها. وتتمثل الغاية من هذا إثارة واستفزاز الجماعات الماركسية ذات النفوذ، وبالتالي فإنهم يجمعون مؤيديهم وفي الوقت نفسه يشدّدون اللوم على الدّولة.
ولا ينبغي التّغاضي عن كون منظمة حزب العمال الكردستاني الإرهابية كانت دائما منظمة مافيوزية تقتل رفقاءها كيفما اتّفق. فقد تم إعدام 17 ألف شخص من قبل حزب العمال إلى حد الآن. وعندما نمعن النظر في مرتكبي عمليات التّفجير الانتحاري عن بعد، ووقف إطلاق النار الذي وُعِد به في ذات اليوم الذي وقع فيه الاِعتداء والفئة المستهدفة منه والمجموعات التي يتم توجيه اللوم لها عقب الهجوم، فإنّه ليس من الصعب فهم كون مجزرة أنقرة عملية معتادة تشبه تماما العمليّات التي ينفذها حزب العمال الكردستاني.
هناك بعض التدابير الهامة التي ينبغي الأخذ بها: ويتمثل التدبير الأول في وجوب منع بعض الأطراف داخل البلاد من إيصال دعمها الخفي لحزب العمال الكردستاني وذلك لا لشيء إلا لأنهم معارضون للحكومة. ويتمثل ثانيها في ضمان إبعاد الّسّياسيين عن استخدام لغة الاستقطات إلى الأبد.
يعيش حزب الشعوب الديمقراطي (HDP) في وضع خطير بصفته حزبًا يوفّر دعمًا صريحًا لحزب العمّال الكُردستاني، ولكن من الضّروري أن تلتزم الأحزاب الأخرى في البرلمان بالقواسم المُشتركة. وتبعا للانتخابات التي ستجرى في الأوّل من نوفمبر فإنّ على الأحزاب إنشاء اِئتلاف بالسّرعة الممكنة. وللوُصول إلى هذا، ينبغي على الائتلاف المقصود أن يُوجّه اِهتمامه إلى حزب العُمّال الكُردستاني قبل كلّ شيء. وينبغي تجاهل بعض السّياسات العَميقة للدّولة التي من شأنها أن تجرّ تركيا في حلبة الحرب السّورية، وعلى هذا الائتلاف أن لا يحيد عن هدفه.
ولقد تسبّب حزب العمال الكردستاني منذ عام 1978م، وهو التّاريخ الذي تأسّس فيه في الكثير من المشاكل لتركيا، واَكتسب في الفترة الحاليَة قوّة جامحة تخوّل له الجلوس مع الحُكومة على الطّاولة نفسها. وكنتيجة لذلك، وقبل أن يشتدّ عوده ويقوم بعمليّات إرهابية دمويّة ثم يلعبُ دور البريء، يجب إيقافه عند حده على الفور بطرق علميّة. وإذا لم تلتزم تُركيا بالجُهود الواجب بذلها، وإذا تغاضت عن الخطر الحقيقي بفتحها الباب أمام المصائب التي تنجر عن التشخيص الخاطئ، فلن يكون لذلك سوى العواقب الوخيمة.
رحم الله أرواح الشهداء وعجّل شفاء الجرحى.
http://www.makkahnewspaper.