هارون يحيى
في 12 يوليو 2016، اختبر الشعب التركي ليلته الأطول على مدار تاريخه، وذلك إثر تعرض تركيا لمحاولة انقلابية فاشلة، تدفق مواطنو تركيا للشوارع وذلك في أعقاب مخاطبة الرئيس أردوغان للشعب، مستخدمًا تطبيق FaceTime، بصفته القائد الأعلى عبر قناة سي إن إن تركيا مطالبًا الشعب بالنزول للشوارع بعد أن ألقت المذيعة بيان الانقلاب - غير الشرعي - عبر قناة TRT (وهي القناة التلفزيونية الرسمية الخاصة بالدولة التركية).
وبفضل شعبنا العظيم الذي تصرف كالجسد الواحد في تلك الليلة، فقد تم إحباط تلك المحاولة المذمومة. ومع ذلك، كانت هذه السعادة ممزوجة بالألم وذلك بالنظر لتلك التداعيات المرعبة التي حدثت في اليوم الذي أعقب هذه المحاولة الفاشلة.
محاولة انقلابية فاشلة في 15 يوليو
أسفرت تلك المحاولة الانقلابية عن استشهاد المئات وإصابة الكثيرين. وللمرة الأولى في تاريخنا، تم قصف البرلمان التركي، بالإضافة إلى المقر الرئاسي الجديد، وهو أمر لم نختبره أثناء حرب الاستقلال، أو حتى عندما احتل الحلفاء بلادنا خلال العهد العثماني، إذ كانت الطائرات العسكرية تحلق على ارتفاع منخفض في سماء العاصمة ومدينة إسطنبول حتى ساعات الفجر الأولى، ومن ثم بدأ القصف بشكل متتال. يساورني شعور بوجوب التنويه إلى أن الجيش التركي لم يكن وراء تلك المحاولة الانقلابية، ولكن جزءًا صغيرًا موتورًا داخل الجيش هو من فعل ذلك. وللمرة الأولى، أيضًا، قاد بعض الجنود من أولئك المنتمين لذلك الجزء - الذي قام بالمحاولة الانقلابية - الدبابات - عن عمد أو غير عمد - خلال المناطق المأهولة بالمدنيين. تعمدت هنا أن أقول "عن عمد أو غير عمد" وذلك لأنه طُلب من بعض المجندين الشباب تنفيذ ذلك الأمر بحجة أن هذا الأمر هو مناورة عسكرية. وعلى الرغم من كونهم يحملون أسلحة مشتراة بأموال دافعي الضرائب الأتراك، فقد قام بعض هؤلاء الجنود بدهس المواطنين بواسطة الدبابات، وقام البعض الآخر بإمطار العديد من المواطنين بالرصاص من الطائرات الهليكوبتر.
المشاهد كانت مرعبة للغاية، إنني غير قادر على وصف هؤلاء الذين صوبوا نيران مدافعهم نحو المدنيين بالبشر، فهم بكل بساطة مخلوقات وحشية، ومتحجرة المشاعر، وقاسية القلب أقدمت على قمع شعبها. ارتكب هؤلاء مجموعة من الجرائم الخطيرة للغاية، إنه لمن الصعب تخيل ما يمكن أن يفعله مثل هؤلاء، بعقليتهم الوحشية تلك، إذا ما وصلوا لسُدة الحكم.
دائمًا ما تتسبب الانقلابات في حدوث الفتن
كوني مواطنًا يعيش في هذا البلد – الذي شهد واختبر العديد من الانقلابات – وجب علي الإشارة - كي أكون منصفًا - إلى أن الانقلابات مآلها إلى الفشل، وأنها لا تساهم في حدوث أي تطور أو تغيير إيجابي للبلد. في الماضي، أحدثت الانقلابات حالة من الشلل في بلدنا وساهمت في تراجع بلدنا للوراء، ودائمًا ما تسببت الانقلابات في حدوث الفتن، ويقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم "وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ". (سورة البقرة - الآية 191).
لن نسمح أبدًا بأن تسقط بلادنا في أيدي هؤلاء المتآمرين، البلد ذو الهوية الإسلامية، البلد الذي نعيش فيه جميعًا وفقًا لقيم الإخلاص، والتماسك، والمحبة، والإخاء. يتسم شعبنا بالرصانة، ودائمًا ما كان معارضًا لفكرة التشرذم والصراع. دائمًا ما يقف شعبنا بجوار جنوده، وشرطته، ودولته. ومع ذلك، فإن مثل هذه المحاولات التي وقعت في تركيا يمكن أن تحدث في أية بقعة من بقاع العالم. ولأننا ندرك جيدًا الأخطار الناجمة عنها، فقد تحرك شعبنا بشكل جمعي لإحباط تلك المحاولة، ونجحنا في ذلك بفضل الله، ومنذ اللحظة التي بدأت فيها الأحداث بالتطور في تلك الليلة طلبت من الشعب - خلال برنامجي التليفزيوني المباشر الذي استمر طوال تلك الليلة واليوم التالي لها - التزام الهدوء، والتصرف بشكل عقلاني.
أمتنا صنعت التاريخ
تصرفت بعض الدوائر بشكل سطحي للغاية اعتقادًا منها بأن الانقلاب سيساهم في حل كل شيء دون التفكير في عواقبه، فالقمع والخديعة لن يجلبوا علينا الخير. تُعد حياة الإنسان - في العديد من بقاع العالم - بلا قيمة، إذ يتم إمطار البشر بالطلقات النارية في اللحظة التي يُستشعر فيها وجود خطر ما وذلك دون اللجوء لأية وسائل أخرى. لن تقبل تركيا بأن تتحول لتصبح على تلك الشاكلة، فالشعب التركي شعب ذو كرامة وكبرياء، ومُحب لوطنه. ويُعد ما حدث بمثابة الانتصار للشعب التركي، إذ كان سينجح مدبرو الانقلاب في فعلتهم - لا قدر الله - بنصف قوتهم وذلك إذا لم يُقدم شعبنا على فعله من تحرك جمعي. أظهر مواطنونا حبهم وتفانيهم من أجل بلدهم جنبًا إلى جنب مع أجدادهم، وهم يتعكزون على عصا المشي الخاصة بهم، والجدات بصحبة الشبان اليافعين وذلك أثناء محاولاتهم الشجاعة لاسترجاع الأسلحة من الجنود المدبرين للمحاولة الانقلابية بالقوة. لن تنسى تركيا أبدًا ما فعله هؤلاء الأبطال الذين ألقوا بأنفسهم على الأرض أو أوقفوا سياراتهم أمام الدبابات لمنعها من التقدم. بدأت تلك الليلة بكابوس، كنقطة سوداء في تاريخنا، ولكن في اليوم التالي تمكن شعبنا الشجاع من صنع التاريخ من خلال حمايته لبلده قدر المستطاع. رحم الله شهداءنا الأبرار، وأسكنهم فسيح جناته.
جميع الأحزاب السياسية تقف جنبًا إلى جنب ضد الانقلاب
وقف الجميع يدًا بيد، وكتفًا بكتف، وكذلك المنظمات غير الحكومية، والسياسيون، والأحزاب السياسية في مواجهة هذه المحاولة الانقلابية. أصدر دولت بهتشلي - زعيم حزب الحركة القومية - بيانًا هامًا فور أن بدأت هذه المحاولة الانقلابية وقال فيه إن حدوث مثل هذه الانقلابات هو شيء غير مقبول، وإنهم يقفون بجانب الحكومة. وبعد لحظات قليلة على ذلك البيان، أصدر كمال قليتش دار أوغلو - رئيس حزب الشعب الجمهوري أكبر أحزاب المعارضة في تركيا - بيانًا مشابهًا لذلك الصادر عن دولت بهتشلي. أظهرت مثل هذه اللحظات - الثمينة في تاريخ تركيا - ما تتمتع به تركيا من وحدة قوية بين أطرافها أمام العالم أجمع، إذ عقدت جميع هذه الأطراف اجتماعات مشتركة داخل أسوار مبنى المجلس المُدمر للتنديد بهذه المحاولة الانقلابية. لم يغادر أيّ من أعضاء البرلمان من الحزب الحاكم وأحزاب المعارضة مبنى البرلمان حتى أثناء القصف. للأسف، لم نعتد مؤخرًا على رؤية تلك الأطراف وهي تقف بجوار بعضها البعض، ولكن بفضل هذا الحدث المذموم، ساندت جميع الأطراف بعضها البعض من أجل مصلحة وطننا.
ختامًا
من الأهمية بمكان أن نظل على أهبة الاستعداد لبعض الوقت، وألا ندخل في حالة سبات، كما لو أن الأمور قد هدأت وحُسمت. ينبغي على الحكومة اتخاذ احتياطاتها الشاملة واليقظة، وينبغي على المواطنين أن يفعلوا كل ما بوسعهم للتعاون مع الحكومة. ينبغي على المواطنين التصرف بما يتوافق مع الاحتياطات التي اتخذتها الحكومة منعًا لحدوث محاولة أخرى مشابهة لتلك التي حدثت، لا نريد أبدًا أن يفقد أي من مواطنينا، أو ضباطنا، أو جنودنا حياتهم، لا قدّر الله. ومن أجل مصلحة الجميع، ينبغي علينا حل جميع الأمور بشكل منطقي وعقلاني وإلا ستنزلق البلاد نحو كارثة مؤكدة وذلك في حالة ما إذا تم التعامل مع الأمور بشكل غير عقلاني وعاطفي. ينبغي علينا أن نحافظ على روح الأخوة أثناء تأدية تلك المهام. وقبل كل شيء، ينبغي أن نتذكر دائمًا أن كل شيء بيد الله، وأن الله خلق كل شيء بحكمة. أسأل الله أن يعود الاستقرار لبلدنا، وأن يُدخل السكينة والطمأنينة في نفوس شعبنا.