هارون يحيى
تخطط الدول السرية - والتي تسعى للتلاعب بالعالم وإلى حيازة هيمنة عالمية - لوضع استراتيجية لتحقيق أهدافها، يمر الطريق الرئيسي لهذه الاستراتيجية من خلال التمويل. على سبيل المثال، لتحقيق هدف الدولة السرية في بريطانية أسست في البدء شركة الهند الشرقية البريطانية في الهند، وبعدها استولوا على طرق التجارة الهندية، وبالتالي وضعوا أسس نظام البنك المركزي تحت رعايتهم.
منذ ذلك الحين، دائمًا ما شُكلت الأسواق المالية والمؤسسات التي تقود هذه الأسواق وفقًا للمصالح السياسية لهذه الدول السرية. تُسيطر تلك المؤسسات على اقتصاد البلد، وتبرئة سمعتها أو إدانتها مرتبط ارتباطًا وثيقًا بوجود عواقب بناءة أو مدمرة لهذا البلد. تُظهر بعض الدول أحيانًا ضعفًا ماليًا، والذي أدى في بعض الأحيان لسقوط الحكومات. ولذلك، فالنظام المالي العالمي ليس له طابع مستقل كما يعتقد البعض. ولكن بدلًا من ذلك، يتم استخدامه بمثابة ورقة رابحة مهمة للسيطرة السياسية والهيمنة على البلاد.
اليوم، يتم تحديد المخاطر المالية للبلاد من قبل وكالات التصنيف الائتماني المالية، وتحدد تلك التصنيفات الممنوحة من قبل هذه الوكالات للبلاد اتجاه الاستثمارات من المستثمرين الأجانب.
إذا ما توقفت الاستثمارات الأجنبية في بلدٍ ما، ففي أغلب الأحيان ليس أمامها أي خيار آخر سوى الرضوخ لهيمنة قوى سرية مُعينة. بالنظر لتلك الحقيقة، بدأت المؤسسات المالية اتخاذ القرارات بناءً على توجهات سياسية بشكل رئيسي. في الواقع، تم خفض معدلات دولٍ استراتيجية، والتي كانت قد بدأت في أن تصبح أكثر قوة، وبالتالي أكثر استقلالًا، وهذا من دون أدنى سبب.
لماذا تم خفض تصنيف تركيا مؤخرًا إلى درجة "غير استثمارية" من قبل وكالة موديز للتصنيف الائتماني؟ على الرغم من عدم خفض تصنيفها عندما تدهورت العلاقات مع إسرائيل وروسيا، وحتى خلال محاولة الانقلاب التي حدثت في 15 يوليو، هذا أمر يحتاج إلى تفكير عميق. فقط قبل يومين من إعلان هذا التصنيف، قال اليستر ويلسون - مدير وحدة المخاطر السيادية في وكالة موديز - لرويترز: إن "صدمة الاقتصاد التركي نتيجة محاولة الانقلاب الفاشلة في يوليو - الماضي - تبددت إلى حد كبير، ومن المتوقع أن يتم الانتهاء من استعراض تصنيف البلاد في غضون الشهر المقبل". أما في الواقع، فقد تم إعلان هذا التصنيف - والذي كان من المقرر أن يتحدد في الشهر التالي، وكان من المتوقع إلى حد كبير أن يكون إيجابيًا - بعد يومين فقط من هذا البيان، وقد أثار بعض الأسئلة الخطيرة بعد أن أتى بمؤشر سلبي.
حقيقة أن البيان المذكور صدر مباشرة بعد زيارة الرئيس أردوغان إلى الولايات المتحدة جاء بمثابة دليل صارخ على التسييس الذي يُهيمن على القطاع المالي. كان أحد الأهداف الرئيسية لأردوغان خلال زيارته للولايات المتحدة هو المؤسسات المالية. ذكر أردوغان كيف أصبحت المؤسسات المذكورة أعلاه الأدوات التي تُستخدم خلال الهجمات العالمية عن طريق تلاعبهم السياسي. وقد أكدت وكالة موديز صحة هذا البيان سريعًا حين أصدرت التصنيف الائتماني الذي مُنح لتركيا بعده مباشرة.
أدى كل انقلاب ومحاولة انقلاب في تركيا إلى انهيارات مالية خطيرة، الاستثناء الوحيد من هذا الوضع هو أحدث محاولة انقلاب تمت. لم يقم الشعب التركي بإيقاف الدبابات في الشوارع فقط، ولكنه أيضًا منع أزمة اقتصادية محتملة عن طريق حشد أمواله. بعد المحاولة، وبفضل إيرادات التصدير والسياحة التي كانت نتيجة لتحسين العلاقات الخارجية وخصوصًا مع روسيا، وصلت تركيا لوضع أفضل بالمقارنة مع العديد من الدول الأُخرى. وهكذا، صرح نهاد زبيكشي وزير الاقتصاد منتقدًا قرار وكالة موديز قائلًا: "قرار وكالة موديز بتخفيض التصنيف الائتماني لا يتطابق مع أساسيات التغيرات الكلية للاقتصاد التركي". وقال نائب رئيس الوزراء محمد شيمشك: "على الرغم من العديد من الصدمات الداخلية والخارجية، نما اقتصادنا بنسبة 5.2% في فترة ما بعد الأزمة العالمية؛ اقتصادنا مقاوم للصدمات". لخص بولنت توفينكشي وزير الجمارك والتجارة والتنمية الاقتصادية في تركيا بقوله: "واصل الاقتصاد التركي النمو على الدوام خلال آخر 27 ربع سنة اقتصادية، ومع معدلات النمو هذه فتركيا إحدى الدول النادرة في تحقيق النمو على مستوى العديد من الدول الأوروبية. عندما ننظر في معدل النمو في الآونة الأخيرة والبالغ 3.1%، فقد نمت تركيا أسرع من 21 بلدًا عضوًا في الاتحاد الأوروبي ودول منظمة التعاون الاقتصادي من أصحاب الاقتصادات الكبيرة. قرار وكالة موديز لا يعكس الواقع".
أثبتت تركيا - ولا سيما في السنوات الأخيرة - أنها دولة لا يُمكن التلاعب بها، وقد أثبتت تركيا أيضًا أنها دولة مكتفية ذاتيًا. جميع القطاع المالي العالمي - وبالإجماع - على بينة من حقيقة أن قرار وكالة موديز يُستخدم كأداة للتلاعب السياسي. لذلك، لن يؤخذ هذا القرار بعين الاعتبار من قبل العديد من المستثمرين. هناك بعض الأمثلة لذلك: التصنيف الائتماني الذي خُفض عن طريق مؤسسة ستاندرد آند بورز قبل شهرين لم يكن له أي تأثير على المستثمرين على الإطلاق.
علاوة على ذلك، أثبتت تركيا أيضًا أنها بلد لا تتأثر بالقوى الأجنبية، وأنها قادرة على التعامل مع الصعوبات من خلال جهودها وقدراتها الخاصة. لا أحد يشك في حقيقة أن محاولة الانقلاب الأخيرة كانت محاولة احتلال خارجية. الأمة التي يمكن أن تقاوم مثل هذه المحاولة أصبحت الآن أقوى من العديد من القوى السرية. وعلى ما يبدو، فالمؤسسات مثل وكالة موديز تدرك هذه الحقيقة أيضًا. كما سيتم إحباط هجماتهم المالية، وربما - للمرة الأولى - لن تستطيع تلك القوى تنفيذ خططها السرية الماكرة في أحد البلاد، لن يمر وقت طويل قبل أن تُصبح بوادر هذا الأمر واضحة.