تنتشر في أيامنا هذه قواعد عسكرية مشيدة على طول الخط الشمالي الجنوبي، وهي في إستونيا ودول البلطيق، وفي بولندا، وسلوفاكيا، ورومانيا، وهو الأمر الذي تراه روسيا مقلقًا للغاية. إذ إن هذه القواعد لا تحشد بداخلها قوات مشاة وحسب، بل تحشد أيضًا الطائرات المضادة للدبابات، مثل طائرات "إيه-10 ثاندربولت" المصممة من أجل تقديم دعم جوي قريب من الأرض خلال الحروب. ولا ينتاب منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو ) شعور بحاجتها للإفصاح عن حقيقة أن هذا النشاط هو نوع من الاستراتيجيات المستخدمة كي يكون لها اليد العليا في البحر الأسود. ومرة أخرى، يدور في الأفق بشكل أساسي صراع القوى الذي تسبب باندلاع الحرب العالمية الثانية.
تعتبر الولايات المتحدة ودول حلف #الناتو، التي ترسل القوات والعتاد إلى المنطقة، أن السلوك العدائي والعدواني المحتمل ل #روسيا هو الذريعة لمثل هذه البنية العسكرية. على الرغم من هذا، يتمحور الموقف الروسي العام في يومنا هذا بكل وضوح حول وضع الديبلوماسية أولوية أولى قبل الدخول في صراعات. لذا، ينتقد كثير من الخبراء الاستراتيجيين الموقف الداعي إلى تحويل العالم بأكمله إلى منشأة عسكرية عن طريق الاختباء خلف حجة "اتخاذ التدابير الاحترازية ضد روسيا".
وعليه، أين يكمن السبب الحقيقي وراء هذه الاستراتيجية العسكرية الدفاعية التي تطورت على حين غرة؟
تقبع مؤسسات فكرية محددة في قلب التوتر المنتشر بالمنطقة وتلتف حول جذوره. ويعتبر المجلس الأطلسي هو العقل المدبر وراء سياسات الناتو الداعية لفرض حصار عسكري على روسيا. يُعرِّف المحللون هذا المجلس، الذي تأسس عام 1961، بأنه المؤسسة التي تُصاغ بداخلها إيديولوجيات الناتو. أما صندوق "كوانتم"، وهو صندوق تحوط كبير يمتلكه جورج سوروس، فقد كان بؤرة الاهتمام خلال الأزمات الاقتصادية التي واجهتها بلاد المنطقة. كما يشار إلى أن مؤسسات المجتمع المفتوح، التي يديرها سوروس، لعبت دورًا تحريضيًا في كثير من الحالات التي تمتد من الثورات الملونة في بلاد متنوعة إلى الربيع العربي أو الحركات المستقلة، مثل أحداث "جيزي" في تركيا.
وتشكل هذه المؤسسات الفكرية الإيديولوجيات التي تطلق عليها "الدولانية" أو "العولمية". على الرغم من أن هذه المؤسسات الفكرية تدفع بإيديولوجياتها المذكورة إلى الواجهة بحسن نوايا، فإن طرقهم تشكل في المعتاد تهديدًا للعديد من الدول والمجتمعات إلى درجة أن هذه السياسات المذكورة تسببت خلال فترة أقل من عشرة أعوام في استقطاب العالم مثلما كان المشهد خلال عصر الحرب الباردة. ونتيجة لهذه السياسات، اجتيح البحر المتوسط والبحر الأسود بالسفن الحربية وامتلأ بها، رغم الحقيقة المعروفة بأنه ليس هناك حرب، لا باردة ولا ساخنة، وقعت بين القوى العظمى. وفي الوقت الحالي، تدور على الألسنة أحاديث عن الحرب العالمية الثالثة أكثر من أي وقت مضى
من المؤكد أن العالم فيه أناس يروجون للاستقطاب والحرب الساخنة. فيزداد هؤلاء الأفراد ثراءً بينما يفقد ملايين من البشر حياتهم. لذلك عندما يجري تحليل الحروب والأزمات حول العالم، ينبغي أن يكون المرء مطلعًا بالسياسات والمصالح التي ستجعل طبقة معينة من المجتمع أكثر ثراءً. وانطلاقًا من هذه النقطة، فإن "التهديد الروسي" كان دائمًا ضرورةً هامةً أو حجةً تستخدمها المجموعات أصحاب المصالح.
ليست الولايات المتحدة وروسيا، ولا دول حلف الناتو على قدر من الجنون في الوقت الحالي، حتى تسعى وراء شائعات الحرب، مع الأخذ في الاعتبار حقيقة أن كلمة حرب، في يومنا هذا، هي المرادف لأن تتصدر الرؤوس الحربية النووية في المشهد. فلا يمكن أبدًا أن يتطوع أي طرف بأن يخوض مثل هذا الكابوس أو يعرض الآخرين له. وعندما يكون الأمر هكذا، فإن شائعات التحضير لخوض حرب أو التهديدات الحدودية لا تبدو واقعية. ينبغي أن يدرك المرء أن هذه الشائعات تهدف إلى وضع بعض طبقات المجتمع تحت التهديد المستمر، بينما تجعل طبقات أخرى منه أكثر ثراءً.
إن ما نحتاج إليه هو التفكير السليم. ينبغي أن يؤمن كل فرد بأن العالم هو المكان الذي يمكن أن تحيا فيه كل البلاد وكل الأفكار في انسجام. ويمكن رؤية أن السياسات الخارجية يجري تطويرها تحت تأثير بعض المؤسسات الفكرية التي تقود البلاد نحو المسار الخطأ. فهذه السياسات لا تعكس مبادئ حلف الناتو ولا القيم الأساسية للإنسانية. كما أن قيم الحب والوحدة تعلو على الخطط الخبيثة. ويمكن تغيير العالم عن طريق الاستمساك بهذه القيم، وتحقيق السلام، وإظهار عدم حاجة الناس لأن يقاتلوا بعضهم بعضًا. وعندما يحدث هذا سوف يحقق العالم الرخاء الذي طالما تاق إليه.
ولا ينبغي أن ننسى الحقيقة التي تقول إن أي عالم يحكمه خبراء استراتيجيون متخصصون في الحروب- هو عالم ذو مستقبل مظلم. فاتحاد الصالحين هو ما سوف يهدينا إلى حقبة باهرة من السلام.