اختل التوازن بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي بعد الحرب العالمية الثانية. وكان إنتاح الاتحاد السوفييتي للقنبلة النووية بمثابة القطرة التي أفاضت الكأس لدى الولاياات المتحدة الأمريكيّة. لهذا السبب تم إنشاء حلف شمال الأطلسي "النّاتو"، وكانت تركيا مهمّة جدّا بالنسبة إلى الطّرفين؛ فالاتحاد السوفييتي كان يسعى إلى إقامة قواعد في المضائق، أما الولايات المتحدة الأمريكيّة فكانت تريد تأسيس قواعد لها على الأراضي التركية في مواجهة التهديد الشيوعي الدّاهم.
وكان اِنضمامُ تركيا إلى حلف النّاتو قد حقّق الهدف المتمثل في كسب تركيا إلى جانب الحلف الأمريكيّ البريطانيّ. ومنذ ذلك التّاريخ بدأت الحرب الباردة، وكان لوجود تركيا في الحلف الأطلسي أهمية بالغة بالنسبة إلى الدول الأعضاء في الحلف، وهكذا حال وجودها دون اندلاع حرب عالميّة ثالثة مُحتملة. وإذا أردنا أنْ نختصر الموضوع فإن الهدف الأصلي من إنشاء حلف الناتو هو الصراع ضد الشيوعيّة، وكانت تركيا تمثل حجر الزّاوية في ذلك الصّراع.
وقد جاء في المادة الخامسة من معاهدة حلف النّاتو أنّ أيّ اعتداء يوجّه ضدّ وحدة أراضي أيّة دولة من الدّول الأعضاء في الحلف يجب أن يُعتبرَ اعتداء على جميع الدّول الأعضاء. وكانت هجمات الحَادي عشر من سبتمبر المثال الوَحيد على تفعيل المادّة الخامسة لحلف النّاتو.
مثلما هو معلوم، دعت تركيا في شهر يوليو الماضي حلف الناتو لاجتماع طارئ عملاً بالمادّة الرّابعة من معاهدة الحلف. وصرح الناطق الرسمي باسم الحلف بأن تركيا ليست وحيدة في مواجهة الإرهاب، وهكذا ظهرت تركيا مدعومةً من قبل الناتو في ما تنفّذه من عمليّات.
ينبغي هنا التّأكيد على مسألتين في غاية الأهمّية: المسألة الأولى، أن تركيا توجد الآن في مواجهة العديد من التنظيمات الإرهابية على الحدود الجنوبيّة، لكن في الوقت الحالي يُعتبر حزب العمّال الكردستاني هو التّهديد الوحيد الفِعلي والمباشر.
المسألة الثانية: كان الهدف من تكوين حلف الناتو هو التّصدي للمدّ الشّيوعي، وتركيا اليوم واقعة تحت التّهديد الحقيقي والفعلي لتنظيم إرهابيّ شيوعي مُلحد، بمعنى أن تركيا، التي هي دولة من الدّول الأعضاء في حلف الناتو أصبحت وحدتُها التّرابية في مواجهة خطر حقيقيّ فعلي.
وهنا يتعين ألاّ يتمّ فهم هذا الموضوع فهمًا خاطئًا: فمن المعلوم أنّ الدّولة التركيّة تملك ثاني أكبر جيش ضمن دول حلف الناتو، وهي قادرة على مجابهة حزب العمال الكردستاني وإلحاق الهزيمة به. ولاشكّ أن هدفنا ليس سفك الدّماء، بيد أنّه عندما يتعلق الأمر بفتنة مثل فتنة الإرهاب فيتعيّن في هذه الحالة استعمال القوة الضّروريّة لردعها. ولهذا السبب فتركيا في الوقت الحاضر ليست في حاجة لأيّ مساعدة أو دعم عسكري من قبل النّاتو.
لكن؛ إذا كانت إحدى الدّول الأعضاء في حلف النّاتو تتعرض وحدتها للأذى من قبل تنظيم ما، ولا يُعتبر ذلك تهديدًا من قبل بقية الدّول الأعضاء فهنا يكمن الخطأ. فإذا كانت وحدات الحماية الكردّية، التي تُعتبر امتدادًا لحزب العمّال الكُردستانيّ تشكل تهديدا للحدود التركيّة، وتعتبرها تركيا تنظيما إرهابيّا وتراها تهديدا لأمنها، ثم نسمع بعد ذلك دولة عضوًا في النّاتو وهي الولايات المتحدة الأمريكيّة تصرّح قائلة: "نحنُ لا نعتبر وحدات الحماية الكرديّة تنظيما إرهابيًّا، ولا نراه يمثل تهديدًا"، عندما نسمع هذا نعتقد أنه مُخالف لما ينبغي أن يتحمّله التّحالف من مسؤوليّة.
جواب الرّئيس أردوغان ردًّا على التّصريحات الأمريكيّة كان مهمًّا: "أمريكا لا تدفعُ الثّمن في الوقت الحاضر، من يدفع الثمن هم نحنُ، ونحن من يعرف ما ترتكبه وحدات حماية الشّعب الكرديّة وحزب الاتحاد الديمقراطي". وهذا التّصريح صحيحٌ تمامًا.
السّؤال الذي ينبغي طرحه هو التّالي: كيف سيكون موقف الولايات المتّحدة الأمريكيّة لو أنّ تنظيمًا ماركسيًّا ينشط على حدودها، ويسعى لإقامة دولةٍ، ويعمد إلى إرسال مسلّحيه إلى داخل التّراب الأمريكيّ، وينفّذ باستمرار عمليّات مسلّحة؟ نعتقد أنها كانت ستحشد دول الناتو وتطبّق مقتضى المادّة الخامسة من ميثاق الحلف للمرّة الثّانية، وتتدخل على الفور عسكريّا. لكن عندما تعلّق الأمر بتركيا فإنّ الإدارة الأمريكيّة تقول بأن "وحدات حماية الشعب الكرديّة ليست تنظيما إرهابيًّا"، ولا ترى حرجًا أو مانعًا في التّحالف مع تنظيم ماركسيّ.
إن الرّوح التي تحكم حلف النّاتو هي حماية أعضائه من الاعتداءات، وهي روح الوحدة والتّضامن. وهذا التّعاون يهدف في الوقت نفسه إلى مواجهة التشكيلات الشّيوعية التي تُعتبر شرًّا مستطيرًا وبلاءً على العالم كلّه. ومن الضّروريّ عدم نسيان روح التّضامن هذه، والتذكير دومًا بالميثاق الذي يحرّك حلف النّاتو.
http://www.makkahnewspaper.
com/makkahNews/writing22/ 136614