كيف أزهر الربيع العربي, هذا الربيع الذي انطلق من تونس وامتد ليشمل أغلب الدول العربية، وذلك عقب أن أضرم محمد البوعزيزي النار في نفسه يوم 17 ديسمبر 2010 ؟
بعد الإطاحة بزين العابدين بن علي اعترى الأمل كثيرا من الناس, لكن الأمر لم يكن سهلا في أعقاب الإطاحة به. فقد استغرق الأمر ثلاث سنوات لتستطيع تونس تشكيل دستور جديد, ولم يكن من السّهل على الأحزاب المشاركة في إعداده الوصول إلى هذه المرحلة, وذلك لأنه كان عليهم اجتياز صعوبات جمة والتوافق وتجاوز اختلافاتهم من أجل الوصول إلى بر الأمان.
أثار الاغتيال السياسي للمعارضين وقتل ثمانية جنود تونسيين في كمين من قبل بعض المتطرفين السّلفيين في جبل الشعانبي موجة جديدة من العنف, وأدّت إلى انقطاع طويل في عملية إعداد الدستور. وعلى الرّغم من كل هذه الصعوبات, كان إصرار حزب النهضة الحاكم على التّوافق أمر جيد, واكتملت العمليّة أخيرا وولد دستور جديد. فاز حزب النهضة ب 89 مقعد من أصل 217 في المجلس التأسيسي حاصدا بذلك ما نسبته 47% من الأصوات, وأصبح الفائز في انتخابات 2011م.
بالرغم من ذلك تنازل الحزب الحاكم عن منصب الرّئاسة, وترك هذا المنصب للحزب الذي يليه مرتبةً, مُثبتا مدى تصميمه على المصالحة والتّوافق. تم تقسيم الوزارات بين ثلاثة أحزاب, وكان من نصيبه 40% بما في ذلك رئاسة الحكومة وأظهر مرة أخرى موقفا ايجابيا.
بعد جولات طويلة من المفاوضات والمناقشات، شُكل الدّستور في نهاية المطاف بغالبية 200 صوت, مقابل 12 وامتناع أربعة عن التصويت. وقد أشاد العالم الغربي على نطاق واسع بهذا التّطور, فالرّئيس الفرنسي هولاند الذي حضر احتفال التوقيع على الدستور أشاد بالإنجاز قائلا: "إنّ الدستور شرف لثورتكم, ونموذج للدّول الأخرى لتحتذي به". كما أضاف قائلا في القاعة المزدحمة التي ضمّت رموزا سياسيّة من عدة دول أفريقية مختلفة: "إن هذا تأكيد على ما قُلته سابقا عندما زرت تونس في تموز, بأن الإسلام متوافق مع الديمقراطية".
كما اثنى بان كيمون على هذا التطور الذي حصل قائلا "يُمثل التّونسيون مثالا جيّدا للدّول التي تسعى للإصلاح".
التحدّي الجديد ينتظر البلاد في الانتخابات الديمقراطية القادمة، فمهدي جمعة كُلف بتشكيل الحكومة، وتم التصويت بالثقة على حكومته من قبل المجلس التأسيسي بـ 149 صوتا, وأدى اليمين الدّستورية في 30 يناير لبدء مهامه الجديدة. في الحقيقة تمكن جمعة من تشكيل الحكومة بعد أن أعلن أنّ انتخابات ديمقراطية مبكرة ستجري في موعد أقصاه نهاية عام 2014، وهذا ما ساهم بشكل كبير في تحقيق الاستقرار في البلاد. فكيف يمكن أن تشق تونس طريقها بنجاح في وتتجاوز العاصفة التي هبّت بعد الربيع العربي؟
موقف حزب النهضة التوافقي
من أهم الأسباب وراء هذا الإنجاز هو موقف حزب النهضة المستوعب للمعارضة والفئات ذات وجهات النظر المختلفة. لم يتراجع راشد الغنوشي زعيم النهضة، على الرغم من الكثيرين الذين كانوا يزعمون أنه يتآمر من أجل البقاء في السلطة، وبدلا من ذلك، تبنى نهج المشاركة في السّلطة كنمط سياسي.
هذا النهج في تقاسم السلطة مع العلمانيين وجد استحسانا كبيرا وسَاعد في تخفيف التّوترات التي كان يُخشى أن تتفاقم مع مرور الوقت في البلاد. والحقيقة أنه لو لم يَختر السياسيون هذا الطّريق، وأصر حزب النّهضة على التمسك بالحكومة والبقاء فيها وإضعاف المجموعات الأخرى بدلا من الإصغاء إليهم والتوافق معهم ما كانت تونس لتكون على ما هي عليه اليوم.
حزب النهضة وحقوق النساء
سبب آخر وراء نجاح تونس يتمثل في المساواة والحرية اللتين أتاحهما الدّستور للمرأة. منذ عام 1950، كان أداء تونس أفضل دائما بالمقارنة مع الدّول العربية الأخرى فيما يتعلق بحقوق المرأة، ولكن ممارسات الحياة الحقيقية لم تكن دائما على نفس المستوى من الليبرالية. من خلال الدّستور الجديد, أدخلت أنظمة جديدة لضمان حماية أقوى للمرأة ضد العنف الأسري، وتم الحفاظ على المساواة بين الجنسين في البرلمان والدستور.
من الممكن دائما تحديد مستوى التّطور في المجتمع من خلال النظر إلى مدى المساواة بين النساء والرّجال. تونس مثال يُحتذى به في الدول العربية من حيث الحماية التي يوفرها دستورها للنّساء. خلال مقابلة تلفزيونية على قناة اي 9 في استطنبول في الثامن من مارس 2014, أوضح السّيد راشد الغنوشي مدى أهمية حماية حقوق النّساء وكيف أنها ساعدت في نجاحهم فقد قال:
"أولى الإسلام دائما أهمية كبيرة للنساء. في الواقع، الإسلام هو أوّل من أوفى المرأة حقوقها، والتي تعرف اليوم بالحقوق العالمية للانسان. وكان الإسلام دائما المدافع القوي عن حقوق المرأة, وناهض بشدّة جميع أشكال العنف والتمييز ضدّها. تشكل النّساء نصف سكان العالم، وهذا يعني أنه لا يمكن أن تستمر الحياة إلا بهنّ، لذا فمن الأهمية بمكان بالنسبة إلينا أن نضمن هذه الوحدة، ونحن لا نستطيع أن نعيش منفصلين عن النصف الآخر من العالم. لا يمكن أن يكون هناك حضارات ومجتمعات من دون النّساء. لقد حان الوقت لكي يدافع الرجال عن المرأة، لكي تدافع المرأة عن المرأة، لكي تتقدم المرأة إلى الأمام وتقود الحركات النسائية. يمكننا أن نخطو خطوات نموذجية؛ نصف أعضاء حزب النهضة في البرلمان هم من النساء، لقد قدّمنا نموذجا للمساواة في ذلك".
حزب النهضة وموقفه من تجريم التطبيع مع إسرائيل
العامل الأخير وراء النّجاح التّونسي هو طريقة السّياسيين هناك في التعامل مع إسرائيل، فلم تسمح النّهضة بتمرير البنود المتعلقة بتجريم التّطبيع مع إسرائيل؛ ومن الواضح تماما أنّ أيّ بند في الدّستور يمكن أن يؤدي إلى شيء من هذا القبيل كان سيخلق ردة فعل هائلة في المعارضة الليبرالية المحلية وفي العالم الغربي. فلو ارتكب المجلس التأسيسي في تونس خطأ في واحدة من هذه النّقاط الثلاث الحاسمة لكانت تونس في وضع مختلف تماما اليوم.
هذا المثال يوضح مرة أخرى بأن الدّول في الشّرق الاوسط, خصوصا الدول ذات الأغلبية المسلمة, ينبغي عليها وقف التحيّز ضدّ تلك المجموعات التي ليست محافظة مثلها, والتوقف عن وصفها بالزّندقة أو إنكار حقوقها, أو تبني المواقف العدائية ضدّها. تونس مثال لدولة يقودها حزب إسلامي, إنها تتبع نهجا معتدلا ومتعدّدا وديمقراطيا, حيث تحتضن وتحترم جميع الأطياف من ملحدين ويساريين وغير مسلمين. في الحقيقة, الأغلبية من النّاس في المنطقة يعرّفون أنفسهم من خلال ديانتهم, الموقف التونسي مشجّع, ويُعطي الأمل لبيئة السّلام بالنمو, مما يفيد ليس فقط المسلمين وإنما كل شخص في المنطقة. لقد ضربت شجرة الحرّية جذورها في تونس, وأسفرت عن حصاد جيّد. إنه مثال رائع يُحتذى به, ومن شأنه أن يعود بالفائدة على جميع التّونسيين على صعيدي الحرّية الدينية وحقوق الانسان.