بقلم: هارون يحيى
تمثل الحرب العالمية الأولى واحدة من أكثر المآسي التي شهدها العالم، إذ لم يقتصر أثرها على أولئك الذين شاركوا فيها، بل امتد أثرها ليشمل معظم أرجاء المعمورة. أما الإمبراطورية العثمانية التي كانت في يوم من الأيام أقوى دول العالم، فقد كانت في تلك الأثناء في حالة من التراجع والضعف المريع، حيث تعرضت الإمبراطورية إلى هزيمة فادحة في حرب البلقان في عام 1912م، ومثلت هذه الهزيمة غير المتوقعة نقطة تحول بالنسبة إلى العثمانيّين. ومن الملاحظ أن العالم لا يزال يعيش الآثار السلبية للحرب العالمية الأولى. ومن الأمثلة الواضحة لذلك الآلام التي عاشها العثمانيون والأرمن بالرغم من مرور 100 عام على ذلك.
لقد كانت هاتان القوميّتان تعيشان في انسجام تام لأكثر من 850 عاما، غير أنّ سلسلة المآسي التي اجتاحت الأتراك والأرمن أدت إلى إضعاف هذه العلاقة. والجدير بالذكر أن الأرمن جاءوا إلى الأناضول لأول مرة عقب معركة ملاذ كرت عام 1071م، وذلك فرارا من ظلم البيزنطيين وبطشهم. ومن جانبهم احتضن العثمانيون الأرمن وسمحوا لهم بالحياة متساوين في ذلك مع المواطنين العثمانيين. وقد مثل هذا السلوك مؤشّرا واضحا للتسامح العثماني تجاه أصحاب المعتقدات الأخرى، في الوقت الذي لم يكن فيه ذلك موجودا في أوروبا على الإطلاق.
ومن الأمثلة الواضحة على الثقافة المشتركة التي تربط بين الأتراك والأرمن، هي أن بعض الأرمن يتحدثون اللغة التركيّة بطلاقة أكثر من اللغة الأرمنيّة. لقد بدأت العلاقة القوية التي تربط بين الأمتين في الانهيار لأول مرة مع الحرب العثمانية الروسية عام 1878م، وقد كان الأرمن حتى هذه الفترة يتولون المناصب الرسمية الرفيعة في الدولة. وفي حقيقة الأمر لم يكن ذلك امتيازًا خاصّا بهم، إذ لم يكن الأرمن أقلّية، بل كانوا أحد المكونات المهمة في الأراضي العثمانية. وكانوا يتصفون بالصدق والأمانة والإخلاص. ولهذا السبب استحقوا لقب "الأمّة الصادقة". والسؤال الذي يطرح نفسه هو: ما هو العامل الذي تسبب في انهيار هذه الوحدة بين الأمتين، بعد أن كانتا تعيشان عائلة واحدة في أمن وأمان سنوات طويلة؟
في الواقع فقد ظهرت الأزمة الأرمنيّة على السطح لأول مرة في عام 1914م، إذ انفصل الصرب والبلغار واليونان عن العثمانيين عقب حروب البلقان باعتبارهم أمما قائمةً بذاتها متّبعين في ذلك أثر الثورة الفرنسية. وبالتالي ظل الأرمن هم الوحيدون الموجودون تحت المظلة العثمانية.
قام الأرمن بتكوين جمعيتين على التوالي في عامي 1881م و1889م تحت اسمي "جمعية هينجاك" و"جمعية طاش ناكسيتيون". وقد كان هدف هاتين الجمعيتين والجمعيات المشابهة لهما هو الحصول على الاستقلال. وعندما دخل العثمانيون الحرب العالمية الأولى إلى جانب ألمانيا، وقف الأرمن إلى جانب روسيا وإنجلترا وفرنسا، ودعوا إلى الثورة في ثلاث وعشرين ولاية مختلفة. ونتيجة لهذه الثورة فقد الآلاف من الأتراك حياتهم، وعمت الاضطرابات والفوضى مساحات واسعة من الإمبراطورية.
ومن جهة أخرى كان العثمانيون خلال تلك الفترة وبصفة خاصة في عام 1912م يواجهون مخاطر جسيمة، وذلك عقب فقدانهم للبلقان. وقد شهدت بلغاريا والقوقاز حالات من الإبادة الجماعية الكبرى بالإضافة إلى الإبعاد والنفي. وفي عام 1914م اضطر أكثر من مليون من الأتراك للهجرة من "تفليس" و"إريفان". وبالرغم من ذلك تمكن 702000 شخص فقط من العودة إلى ديارهم سالمين. وفي ذات الفترة كانت هناك ثورات عديدة للأرمن، وتوجد وثائق حول ذلك في الأرشيف الفرنسي.
وفي 24 نيسان/أبريل سنة 1915م أصدر العثمانيون أمرا بالقبض على 253 من زعماء الأرمن، وأُرسل 180 من هؤلاء إلى عدة سجون. وقد ُأعتبر هذا اليوم بمثابة اليوم الأول فيما يعرف بالتطهير العرقي الأرمني. وعقب ذلك اتخذ العثمانيون قرارًا بنفي الأرمن إلى المناطق التي ُأجبر الأتراك على تركها. وقد أصبحت مسألة نفي الأرمن هذه مثارًا للجدل والنقاش، وذلك فيما إذا ما كان هذا القرار يتوافق مع الأمن العالمي أم لا.
ومن الملاحظ أن بعض الأطراف كانت تتدخل في هذه المسألة أثناء الحرب بسبب الخوف والهلع، في حين يتدخل طرف آخر بدافع الرغبة في نيل الكعكة والمكافأة. أما الحقيقة التي لا تتغير فهي أن أكثر الأطراف المتضررة كانت من المدنيين، وهو أمر معروف في جميع الأزمنة. لقد عانى كبار السن والنساء والأطفال من عدم توفر الغذاء الجيد والماء النقي والعلاج، وفقد الكثير من هؤلاء أرواحهم بسبب الأمراض والجوع وهجوم العصابات.
وخلال هذه الأحداث خسر كل طرف أعدادا كبيرة من القتلى، غير أن العثمانيين كانوا يعاملون المدنيين من ذوي الأصول الأرمنية معاملة كريمة خلال فترة الإبعاد والنفي هذه. ومن الأمثلة الحية على ذلك هو أن المجموعة المتكونة من 1673 شخصا والتي قامت بالهجوم على قافلة الأرمن، تمت محاكمتها محاكمة عسكرية. وقد تمثلت قرارات هذه المحكمة في إعدام 76 شخصا، وإصدار أحكام متفاوتة بحق الآخرين.
لقد تسببت الحرب العالمية الأولى مثلها مثل بقية الحروب في هلاك الملايين من البشر، ومعاناة ملايين آخرين، وبلا شك فإن ذلك يمثل الوجه القبيح لتاريخ العالم. وفي ظروف الحرب النفسية يتيح كل طرف من أطراف الحرب لنفسه أن يفعل كل شيء من أجل حماية نفسه، ويعتبر كل شيء مباح من أجل الوصول إلى الهدف. ومن الممكن أن تقود الحرب أصحاب العقول الرصينة إلى وضعيات من الغباء وعدم الإدراك. لذلك فمن الممكن أن يتبنى مثل هؤلاء سياسة الظلم حرصا على تحقيق الهدف، أو سعيا وراء حماية أنفسهم. وبلا شك فإن هذا هو الخطأ نفسه الذي وقع فيه كل من الأتراك والأرمن، مما أدى إلى قتلهم لبعضهم البعض.
وبالرغم من مرور 100 عام على ذلك، إلا أن هذه القضية لا تزال حية وحديث العالم. ويقوم البعض في الوقت الحالي باستخدام هذه الحادثة المريرة كورقة سياسية. وفي الوقت نفسه هناك عدد كبير من الدول أصبحت تتبنى رواية التطهير العرقي الأرمني لعوامل سياسية. وينبغي القول هنا أن من بإمكانهم الحديث في هذه المسألة وحسم القول فيها هم المؤرخون وليس السياسيّون. والحال أنه توجد حالات كثيرة جدا لعمليات الإبادة الجماعية في تاريخ الإنسانية، وبالرغم من ذلك لم يُطلق عليها هذا المصطلح "الإبادة الجماعية"، وبالتالي فإن إطلاق هذا المصطلح على الأرمن يعني عدم حيادية البحث في النطاق التاريخي، وهو بمثابة اللعبة السياسية بالنسبة إلينا.
لا يمكن لأي شخص على الإطلاق أن يستوعب هذا الوضع الذي قاد إلى وقوع هذا القدر من الدمار، والذي تسبب في هذه المأساة سواء للأتراك أو الأرمن. إن كلا الطرفين فقد أعدادا هائلة من الأشخاص، ولا تزال عظام هؤلاء حتى الآن تقبع في بطون ساحات القتال. ومن الضروري الفصل بين البحث التاريخي العلمي المحايد في هذه المسألة من جهة وبين النّفخ في روح الشّقاق بين هاتين الأمتين المتقاربتين وتحقيق أغراض ومتطلبات سياسية من جهة أخرى. ويجب على إخواننا الأرمن عدم تناسي هذه الحقيقة وهي، أنهم إذا كانوا يوافقون على أن هذه المسألة هي عبارة عن إبادة جماعية قام بها الأتراك، فإن الأتراك بالقدر نفسه يمكنهم أن يعتبروا أن الأرمن قاموا بإبادة جماعية بحق العنصر التركي، وهذه الوضعية لن تقود إلا إلى مزيد من الآلام والمآسي، ولن توصل إلى أيّ حل.
إن حلّ هذه المسألة لا يكون إلا على يد تركيا وأرمينيا فقط، حيث عاش كلا الطرفين هذه المأساة وتأثر بها تأثرا كبيرًا. وتتمثل الخطوة الأولى الجادة في هذا الإطار في تناسي مآسي الحرب وتركها بعيدًا، والبحث عن روابط الصداقة والأخوة. ويمكن لكلا الدولتين أن يتّحدا ويمثلا نموذجا للعالم قاطبة. وعلى هذا الأساس يمكن إلغاء الحدود والتأشيرة والجوازات بين الدولتين، وعبر هذه الوسائل يمكن حل هذه الأزمة بصورة نهائيّة.