اندلعت مع بداية القرن العشرين حروب جديدة تحكمها العقلية الفاشية. بما تحمله من فكر مغرض تحت اسم "العرقيات الدنيا"، إذ تفترض تلك المزاعم السخيفة، أن تلك الأعراق التي يسمونها "أعراقًا دنيا"، ليس لها الحق في الحياة بشكل عام. وبمجرد تشبع الشعوب بتلك الأيديولوجيات المنحرفة، يصبح من السهل على البعض أن يقتل البعض الآخر. وقد تسببت تلك العقلية في أعمال كارثية، إذ شهد القرن العشرون حربين عالميتين مروعتين.
كانت الأسلحة الكيميائية واحدة من أشنع ما أنتجه التراث البشري في تلك الحقبة. إذ نادى بعض السياسيين الذين حظوا بتقدير بالغ خلال فترة الحرب، مثل تشرشل، بكل صراحة باستخدام الأسلحة الكيميائية. وتحول أسرى الحرب إلى فئران تجارب لتلك الأسلحة، وقد أسفرت الحرب العالمية الأولى عن مصرع ما يزيد عن 100 ألف جندي، جراء استخدام الأسلحة الكيميائية.
أُنتج أثناء فترة الحرب العالمية الأولى، 124 ألف طن من الغازات السامة. بينما استخدمت القوات الجوية الملكية البريطانية القنابل الكيميائية ضد الثوار البلشفيين خلال فترة الحرب الأهلية الروسية، ثم استخدموها مرة أخرى ضد الأكراد في منطقة الموصل. وخلال نفس هذه الفترة، استخدمت إيطاليا الفاشية الأسلحة الكيميائية أيضًا، ما تسبب في فقدان أكثر من 100 ألف من الأحباش لأرواحهم. أما خلال الحرب العالمية الثانية، لجأ اليابانيون لاستخدام الأسلحة الكيميائية بشكل كبير، إذ نفذت اليابان هجمات كيميائية ضد شعوب آسيوية أخرى، بالأخص تلك التي يعتبرونها "عرقيات دنيا".
بعد عقود من الزمان، وعلى وجه التحديد في عام 1988، شن النظام العراقي هجومًا كيميائيًا على السكان الأكراد لمدينة حلبجة، ما أسفر عن مصرع خمسة آلاف من الأبرياء في غضون دقائق معدودة. وفي ظل استمرار إنتاج الأسلحة الكيميائية، استمر استخدام الأسلحة التقليدية في الحروب والنزاعات حول العالم بلا هوادة وبتزايد مُطرد لم يسبق له مثيل، بما في ذلك النابالم والبراميل المتفجرة. وبينما قتلت الأسلحة الكيميائية الناس بشكل بشع، كانت الأسلحة التقليدية بلا شك أمرًا سيئًا للغاية. إذ دمرت بيوت الناس، وفجرت أجسادهم إلى أشلاء. تمامًا مثل الأسلحة الكيميائية، استخدمت الأسلحة التقليدية والقنابل – والتي تُعد أيضًا آلة قتل مروعة – بنفس أسلوب الخيانة والغدر مرارًا وتكرارًا في ضرب المدنيين. فقد بلغت الخسائر البشرية في صفوف المدنيين حتى اليوم - نتيجةً لاستخدام الأسلحة التقليدية - أعدادًا مهولة بالفعل في جميع أنحاء العالم.
جديرة بالثناء تلك الجهود الكثيفة التي بذلها المجتمع الدولي في ردة فعله إزاء استخدام الأسلحة الكيميائية. إلا أن التزام كثير من المنظمات الخاصة، وغير الحكومية بالصمت على استخدام الأسلحة التقليدية، يثير كثيرًا من علامات الاستفهام حول أسباب ذلك الصمت.
فقد رأينا جميعًا مدى قوة رد فعل وسائل الإعلام العالمية على الهجوم الكيميائي الذي وقع مؤخرًا في سوريا، وجاء في العناوين الرئيسية تحت اسم "جريمة ضد الإنسانية". وعلى الرغم من ذلك، استُشهد مدنيون أبرياء منذ ما يقارب الأسبوع في دمشق ودرعا وإدلب، جراء استخدام الأسلحة التقليدية، إلا أن العالم لم يبدِ نفس القدر من الامتعاض. وعلى الرغم من اجتماع مجلس الأمن الدولي، التابع للأمم المتحدة، بشكل عاجل بعد الهجوم الكيميائي، إلا أنه لم يحرك ساكنًا إزاء الهجمات التي وقعت قبل أسبوع واحد فقط.
من الخطأ بما لا يدع مجالًا للشك، اعتبار إزهاق أرواح الأبرياء عن طريق الأسلحة التقليدية، والتغاضي عن الأمر وعدّه "ضررًا جانبيًا" أمرًا مقبولًا. فإذا نُظر إلى إراقة الدماء، وبالأخص تلك الناتجة عن قصف الأبرياء بالقنابل، على أنه أمر طبيعي، أفلا ينبغي لنا أن نقلق بشأن أولئك الأشخاص المجردين من المبادئ الجالسين في مواقع السلطة؟ وإذا اعتبرنا أن إبادة الناس باستخدام القنابل والمدافع الرشاشة أمرًا مقبولًا، في الوقت الذي نشجب فيه استخدام الأسلحة الكيميائية، فان من شأن ذلك أن يمهد الطريق إلى كارثة كبرى. إلا أنه من المحزن، أن هذا الطريق قد عُبد بالفعل. وهذا الصمت المطبق الذي نشهده عند سقوط أعداد مروعة من الضحايا صرعى في كافة أنحاء العالم، أمر غاية في الخطورة. إذ يسعى مقاولو الحروب إلى إعادة بناء تفكير لا واعٍ بشكل معين، وفرضه على المجتمعات. ومن ثم، تبدأ الشعوب في التعود على أشياء لم يتعودوا عليها من قبل، ويؤيدون أشياء لم يكن لهم أن يؤيدوها على الإطلاق. فالأمر منوط بنا جميعًا لوضع حد لهذا التصور الخبيث.
إن التحدي الذي نواجهه الآن، هو إقصاء أي أيديولوجية تعتبر أن حياة البشر لا قيمة لها، وأن نشوب الحروب هو أمر مقبول. فمثل هذه الأيديولوجيات المنحرفة، ما هي إلا أرض خصبة لنشوب الحروب، وهي نفس تلك الأيديولوجيات التي تتبنى العنف. وبالتالي، يقع على عاتقنا أن نتصدى لمؤامرات أولئك الذين يصورون جرائم أسلحة الدمار الشامل أقل فداحة من غيرها، وفقًا لطرقهم الخاصة، وننقض فكر أولئك الذين يرون ضرورةً في اندلاع الحروب.