تخيل لوهلة أنَّ العالم الذي تعيش فيه مختلف بالكلية عما هو عليه الآن، الظروف الجوية متماثلة، لكن لا يوجد تربة. وأنَّ هناك أرضية مسطحة، سوداء، جافة، بدلًا من التربة، سطح لا ينمو عليه شيء، ولا يستطيع أيُّ كائن العيش فوقه، لا يوجد شيءٌ يُؤكل. وإن حرثته، ونثرت البذور، لا يخرج منه شيء. لا توجد تضاريس، أو جبال، أو بحار.
لو عشت في عالم كهذا، لن يخطر أبدًا على بالك أسئلة مثل "لماذا لا تخرج الفواكه النضرة، ذات الرائحة الطيبة، والخضروات الشهية، والطعام من كل الأنواع من تلك الأرض؟" نظرًا لأنَّك لم تصادفهم مطلقًا في حياتك، وربما لن تُدرك أبدًا أن مثل تلك المنتجات يمكن أن تخرج من الأرض. سيمنحك تَخَيُّل غياب التربة التي ربما تطأها بقدمك كل يوم دون أدنى تفكير، فكرة أفضل عن أهميتها الحيوية. يكشف الله العظيم في سورة الكهف أنَّه لو شاء، لجعل الأرض مكانًا جافًا، قاحلًا.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، "وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيدًا جُرُزًا" (سورة الكهف آية 8).
نستعرض في هذا الفيلم التربة المُعجزة التي نعيش عليها، وسنُشاهد أنَّ الله العظيم هو الذي يخلق كل الأشياء في أحسن تكوين، في الوقت الذي يريده، وأنَّه يُرينا الآيات التي تُثبت وجوده، وبديع خلقه الذي لا مثيل له، الموجود حتى في حفنة من التراب.
لو لم تكن مادة كالتراب موجودة، لبدا المظهر الجمالي للعالم شديد القسوة والقبح. في غيابه، لم تكن لتنمو الأشجار أو النباتات، وكانت الأرض ستُصبح ببساطة مجرد كتلة من الصخور والحجارة. لكن الأكثر أهمية من كل هذا، أنَّه لو لم يكن هناك تراب، لما وُجد المصدر الأساسي للطعام، الضروري للحياة، وللوجود، وللبقاء. لكن بفضل الله العظيم، ورحمته الواسعة، وبركته، لم يُخلق العالم الذي نعيش فيه هكذا.
سخَّر الله التربة التي جعلها شديدة الخصوبة، في خدمة الإنسان، وأخرج منها أنواعًا لا تُحصى من المنتجات. لا تُوجد نهاية للنعم التي أنعم الله بها علينا من التربة. فالتربة مثل المتجر الخاص للطعام، الذي يمنح الحياة لآلاف النباتات، ويُمثل الثروة الطبيعية للأرض. ورغم انبثاق مئات الأنواع من الفواكه والخضراوات، من ذات التربة، إلا أنَّ لكلٍ منهم مذاق، ولون، وشكل مختلف.
لا يوجد شيء آخر على الأرض يُضاهي التربة، التي تُخرج منتجات بمختلف النكهات، والألوان، رغم أن أطنانًا من المخلفات، والنفايات يتم التخلص منها فوقها، وتتحلل ملايين الجثث في باطنها. من المستحيل إنتاج مادة كتلك بصورة صناعية، حتى مع استخدام كل الوسائل التي توفرها آخر ما وصلت إليه التكنولوجيا.
كل هذا يقف دليلًا على أنَّ التراب خُلق بمواصفات إعجازية، كمُركَّب فريد وخاص، يسمح باستمرار الحياة. يكشف لنا الله في آيات القرآن أن التربة دليل هام على الخلق:
“وَآيَةٌ لَّهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِن ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ ۖ أَفَلَا يَشْكُرُونَ(35)" (سورة ياسين، آيات 33-35).
التربة: المركب المُعجز الذي يُغلِّفُ الأرض
رغم أنَّه يبدو غير معقد نوعًا ما، إلا أن التربة لها بناءٌ معقد للغاية، وتحتوي على نظام بيئي كبير في داخلها. تتضمن المركبات الموجودة داخل التربة معادن متعددة، ومواد مثل الأوكسجين، والماء، والدبال، بالإضافة إلى الفضلات الحيوانية والنباتية. علاوة على ذلك، هناك أيضًا مكونات حية في التربة، تأتي منها مواد، ومُركبات تمنح التربة خصائصها الأساسية، من بينها عناصر، ومواد تنتج من العمليات الكيميائية التي تقوم بها البكتيريا، والفطريات، والجسيمات الحية الدقيقة الأخرى.
يُظهر الفحص الدقيق لنا أن التراب خليط مُعجز، مخلوق من عدد كبير من العناصر المختلفة، والمواد الكيميائية، والجسيمات الحية الدقيقة. عندما تجتمع العناصر، والكائنات، التي ليس لها تأثير بمفردها، يُنتجون مادة خاصة شديدة الأهمية لنا، وللتوازن البيئي. ولهذا نجد أن نسب المواد الموجودة في التراب قد خُلقت بإحكام دقيق لجعلها خصبة، ومُنتجة.
دعونا نتطلع إلى الأدوية التي نستخدمها عندما نمرض، جميع تلك الأدوية تم الحصول عليها عن طريق خلط مواد مختلفة بنسب متعددة، ثم ننتظر بعد ذلك الحصول على تأثير مفيد لجسم الإنسان. يعمل عدد كبير من المتخصصين لشهور من أجل إنتاج أكثر دواء يناسب صحة الإنسان في نهاية الأمر.
وبنفس الطريقة، التي تُستخدم فيها أعداد هائلة من المواد الكيميائية بناءً على أُسس المعرفة المتخصصة لصناعة الدواء، تُصنع التربة التي تُمثل مصدر الغذاء لجميع الكائنات الحية من عناصر، وجسيمات حية دقيقة تم تجميعها من خلال معرفة علمية خاصة. بالإضافة إلى هذا، رغم أن الدواء يُمكن إنتاجه بواسطة البشر، إلَّا أنَّ الحصول على مجرد حفنة من التراب المُنتج بتلك الطريقة أمر مستحيل.
تم تقدير الوقت اللازم لتكوين 1 سم من التربة ما بين 150 إلى 350 سنة، والتربة التي يُمكن استخدامها في الزراعة تستغرق 20 ألف سنة لكي تتكون في ظل أكثر الظروف المناسبة.
يُظهر كل هذا أن التربة لم تأت إلى الوجود بالصدفة، بل هي نتيجة عملية تخليق تمت بالقوة السامية لله وعلمه.
مجرد صب الماء على التربة قد يكون كافيًا للعديد من النباتات لكي تخرج منها. والطريقة التي تستمر فيها ملايين الأطنان من الخضراوات، والفواكه، والأشجار، والنباتات في الخروج من التربة كل عام، تُعطينا فكرة عن الطبيعة المُكثفة للعمليات الكيميائية التي تجري داخلها. مجرد التفكير في هذه الحقيقة الرائعة يكفي للشخص لكي يُقدِّر بشكل مناسب معرفة وقوة ورحمة الله. يقول الله في آية من آيات القرآن:
“أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ ۖ أَفَلَا يُبْصِرُونَ" (سورة السجدة، آية 27).
تكوين التربة مناسب بشكل مثالي للحياة
تتكون التربة من جزيئات من مختلف الأحجام التي تميل للتلاصق مع بعضها البعض، هذا التلاصق بين تلك الجزيئات شديد القوة إلى درجة تجعل فصلهم ميكانيكيًا غير ممكن إلا باستخدام حد معين من القوة.
بالإضافة إلى هذا، هناك جزيئات مدمجة مع بعضها البعض داخل التربة، بشكل يمنع فصلها نهائيًا. هذه الجزيئات المحتشدة تمثل سمة هيكلية للتربة، وتتراص جميعها بطريقة معينة. عند جمع أو لصق هذه الجزيئات معًا إما أنْ تَظهر الوحدة الهيكلية للتربة، أو تتكون جزيئات أكبر. تعد هذه العملية بالطبع شديدة التعقيد، وهي نتيجة لعدد هائل من الروابط الكيميائية.
تمنع الطريقة التي تتماسك بها جزيئات التربة تلك - مع بعضها البعض، دون أن تنفصل مرة أخرى - من تحول التربة إلي مادة هشة وضعيفة، وتتمكن التربة من مقاومة السحق، أو التبعثر بواسطة الضغط الخارجي بواسطة تلك الخاصية. الطريقة التي نتمكن بها من حرث وزرع التربة، أو استخدامها كأحد مواد البناء، أو السير عليها بسهولة، أو الطريقة التي تُثبَّت بها جذور الأشجار والنباتات، تنبع جميعها من هذه الخاصية البنيوية.
خلق الله العظيم - الذي خلق كل شيء بكمال وصولًا لأدق التفاصيل - التربة بهذه الخصائص، حتى يتمكن الإنسان وكل الكائنات الحية من الاستفادة منها، وقد كشفت الآية التالية حقيقة أن جميع الأشياء خلقها الله دون أن تشوبها شائبة، وفي أبدع تكوين:
"هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ ۖ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ ۚ يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ" (سورة الحشر، آية 24).
معمل عملاق يعمل من أجلنا تحت الأرض
التربة ليست مجرد شيء يتكون من مواد عضوية وجزيئات، إذ تُعد الكائنات الدقيقة التي تعيش فيها مكون آخر مهم. على سبيل المثال، يحتوي ما يُقدَّر بملعقة شاي واحدة من التربة على ما يقرب من 4000 نوع من الكائنات الدقيقة، وتلعب كثافة الكائنات الدقيقة في التربة، والعمليات الكيميائية المختلفة التي تؤديها، دورًا مهمًا في خصوبة التربة.
تُحلِّل تلك الكائنات الفضلات النباتية والحيوانية في التربة، لكي تتمكن من استيفاء حاجتها من الطاقة، بالإضافة إلى تحويل العناصر الغذائية إلى أشكال تستطيع النباتات امتصاصها، لأن العناصر الغذائية الموجودة في الفضلات النباتية والحيوانية في التربة، والمركبات النيتروجينية، والمعادن على وجه الخصوص، ليسوا على الشكل الذي تستطيع النباتات استخدامه مباشرة.
لكن، هذه الحالة التي قد تبدو مليئة بالمشاكل للنباتات تقوم بحلها الكائنات الدقيقة، وكلما يزداد غنى التربة من العناصر الغذائية، تزداد خصوبتها. تصف ورقة بحثية علمية منشورة بواسطة جامعة نبراسكا، معهد الزراعة والموارد الطبيعية، كيف تزيد تلك الكائنات من إنتاجية التربة:
هناك عالم آخر تحت قدميك، ورغم أنَّ نظام التوازن البيئي للتربة يحظى باهتمام قليل، إلا أنَّ فهم الحياة السرية لميكروبات التربة يُمكنه تحسين إنتاج المحاصيل، والبيئة. قاطنو التربة الأخفياء هؤلاء، يُعتَبرون خيولًا تعمل في عمليات معقدة تتكامل مع النباتات الصحيحة، والتربة. تؤدي الميكروبات جميع المهام المُفيدة، مثل تحويل بقايا النباتات إلى دبال غني، ومستقر، مما يُحسن من غذاء المحاصيل، واستخدام المياه، وبنية التربة.
"فهم ميكروبات التربة يمكن أن يساعد الزراعة والبيئة" جامعة نبراسكا، معهد الزراعة والموارد الطبيعية، 25 مارس، 2003.
تعمل الطريقة التي تتصرف من خلالها أشكال الحياة الدقيقة تلك - الأصغر من أن تُرى بالعين المجردة - من أجل تخصيب التربة، بالضبط كالكيميائيين، وهو ما يعتبر حالة خارقة للعادة. حتى الكيميائيين الذين أمضوا سنوات في التدريب يُمكن أن يرتكبوا أخطاءً، لكن هذه الكائنات تقوم بأداء واجباتها، منذ أول يوم خُلقت فيه، بطريقة لا تشوبها شائبة، وتُنتج العناصر الغذائية اللازمة للنباتات، والخضروات التي نأكلها.
من الجلي أن الله يخلق هذه الكائنات ومعها العلم، والصفات التي تحتاج إليها، ويمنحنا نعمًا لا تُحصى بجعل التربة التي نعيش عليها في غاية الخصوبة بواسطة تلك الكائنات.
هذه نعمة عظيمة بكل تأكيد، رغم أن جميع النباتات التي تنمو في التربة تُروى بنفس المياه، وتقوم بعملية البناء الضوئي بنفس ضوء الشمس، وتستخدم نفس الهواء، إلا أنَّ لكل منها أشكالًا، ومذاقات، وفوائد غذائية مختلفة للغاية، ويُظهر أقل مقدار من التأمل، أنَّ هذه الأمور من أكثر الأشياء استثناءً.
كما لو كانت التربة مكونًا سحريًا، تقوم بتحويل البذور، والماء، والهواء، وضوء الشمس، إلى تفاح لذيذ، أو موز، أو فراولة طيبة الرائحة.
وتظهر هذه الخاصية من خصائص التربة في الآية القرآنية التالية:
“وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَىٰ بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَىٰ بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ" (سورة الرعد، آية 4).
يجعل الله الذي لا نهاية لرحمته، من خصوبة التربة وسيلة لضمان أن النعم التي سيستمتع عباده بتناولها، ستصل إليهم بالشكل الأمثل. في آية أخرى، "ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا" يصف الله كيف جعل التربة مادة منتجة:
"فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إلى طَعَامِهِ، أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاء صَبًّا، ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا، فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا، وَعِنَبًا وَقَضْبًا، وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا، وَحَدَائِقَ غُلْبًا، وَفَاكِهَةً وَأَبًّا، مَّتَاعًا لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ" (سورة عبس، 24-32).
الماء النقي الذي نشربه يأتي من التربة
تعود كمية معينة من مياه الأمطار التي تهطل على الأرض مرة أخرى إلى البحار والمحيطات، ويُحتجز جزء آخر في التربة، وبسبب قدرة الامتصاص العالية للتربة، تبدأ مياه الأمطار المتساقطة في الهبوط للمستويات الأدنى من التربة.
وتتوقف المياه عن الهبوط عندما تصل إلى الطبقة غير المُنفذة، ويبدأ مستوى الماء في التراكم بسبب الأمطار المتتابعة. وفي نهاية المطاف، تبلغ العملية نقطة التشبع، وتبحث المياه عن طريقة لمغادرة الطبقة.
تنبثق المياه لأعلى من النقطة الأضعف في هيكل التربة، بواسطة ضغطها المرتفع، وتبلغ السطح في النهاية. يُعد هذا الارتفاع في الضغط السبب وراء اندفاع المياه من الآبار الجوفية الارتوازية بالطريقة التي تحدث. ويكشف لنا الله في آية من آيات القرآن كيف تدخل مياه الأمطار التربة، وترفع منسوب المياه الجوفية:
"أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِأُولِي الْأَلْبَابِ" (سورة الزمر، آية 21).
كيف يتأتى أنَّ الماء يمكنه أن ينبع من تربة موحلة؟ الطريقة التي تخرج بها المياه من التربة، التي تحتوي على كثير من المخلفات، والنفايات، تُمثِّل تجسيدًا واضحًا لرحمة الله بالبشر.
رتب الله جزيئات كالرمال، والطين، والحصى في التربة بشكل محكم، بحيث تكون بمثابة "المرشح" للمياه التي تدخل التربة، عن طريق إزالة الجزيئات، والشوائب منها. بمعنى آخر، تُنظف التربة المياه التي تدخلها بدلًا من إضافة الأوساخ إليها.
وبما أنَّ المياه تهبط في بعض الأحيان إلى أعماق سحيقة من التربة، ترتفع حرارتها، مما يعني أنها تُذيب العديد من المعادن عند مرورها من خلال الطبقات المختلفة للتربة، وتقوم بامتصاصها، وتكون النتيجة هي الينابيع الحارة.
تم إثبات أن العديد من الأمراض التي يستعصي علاجها بالأدوية، تتحسن باستخدام الينابيع الحارة، هذه الأمور تُعد بلا شك معجزات خلقها الله في التربة.
نقطة أخرى تحتاج إلى توضيح، هي كيفية انبثاق الماء على هيئة ينابيع. تسمح بنية التربة للمياه المُخزنة في جوف الأرض بالارتفاع إلى أعلى، وبذلك يتمتع الناس بسهولة الوصول للمياه التي تسقط من السماء وتغيب في أعماق التربة.
هذه نعمة عظيمة بكل تأكيد، فإيجاد المياه المتراكمة في أعماق الأرض ورفعها عدة أمتار مهمة عسيرة وشاقة. لكن باستخدام خواص خلقها الله للتربة والماء، ترتفع المياه إلى السطح لكي يستخدمها الناس.
لو لم تُخَزِّن الطبقات المختلفة في الأرض المياه، وبدلًا من ذلك، سمحت بمرورها إلى طبقات أكثر عمقًا، لاستمرت المياه في الهبوط باستمرار لأسفل، ولأصبح من المستحيل فيزيائيًا أنْ ترتفع مرة أخرى. لو كان الله خلق بنية التربة بهذا الشكل، لما استطاع أحد إلا الله رفع المياه مرة أخرى إلى السطح، وقد كشف الله لنا عن هذا في آية أخرى:
في عام 1827، اكتشف عالم النبات الاسكتلندي، روبرت براون، أن هناك نوعًا من الاهتزاز والانتفاخ يحدث في جزيئات التربة عندما تسقط عليها قطرات المطر. التربة عبارة عن نظام يتكون من جزيئات متعددة تحتوي على أنواع مختلفة من العناصر المعدنية. ويتسبب المطر في تأين تلك العناصر المعدنية.
وتهتز تلك الجزيئات المتأينة عندما تهطل الأمطار، بينما تضرب قطرات المياه هذه الجزيئات من اتجاهات مختلفة، تقوم بامتصاص المياه ويزداد حجمها. تستقر تلك القطرات بعد وقت قليل في الرواسب المعدنية داخل التربة. وتحصل النباتات على احتياجاتها من المياه من تلك الخزانات لمدة 2 إلى 3 شهور.
لولا وجود تلك الخزانات، لنزلت المياه إلى أدنى أجزاء التربة مما سيؤدي إلى جفاف، وهلاك النباتات على سطح التربة في غضون أسبوع على أقصى تقدير. نقطة هامة يجب التنبيه إليها هنا، هي الطريقة التي وصف بها القرآن هذه الخاصية الموجودة في التربة بقوله "اهتزت وربت".
هذه الظاهرة التي اكتشفها العلماء منذ ما يقرب من 200 عام مضت، وُصفت في القرآن كما يلي، قرآننا المقدس الذي أُرسل إلينا منذ أربعة عشر قرن مضى:
“وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ" (سورة الحج، آية 5).
كانت التربة مصدر الحضارات في كل العصور
ليست التربة المصدر الوحيد المرتبط بالتوازن البيئي، إذ تسمح خصائصها البنيوية باستخدامها كأداة عملية للغاية، وكمادة خام في الحياة اليومية. فالتربة مادة مفيدة للغاية لعبت دورًا عظيمًا في ظهور العديد من الحضارات على مر التاريخ.
لكي يتمكن المجتمع من إنشاء حضارة في منطقة بعينها، والارتقاء بها إلى مستوى معين بمرور الوقت، يجب مراعاة عدة شروط مهمة، يأتي على رأس القائمة تربة خصبة مناسبة للاستيطان وقريبة من مصادر المياه. لعب هذان العاملان دورًا هائلًا في تأسيس العديد من الحضارات العظيمة.
يمكننا بسهولة رؤية هذا عندما ننظر إلى المناطق التي نشأت فيها حضارات عظيمة. على سبيل المثال، تم تأسيس الحضارة المصرية على الأراضي الخصبة التي تُروى بمياه النيل.
الحضارات التي أُسست بواسطة العديد من المجتمعات التي استوطنت بلاد ما بين النهرين، وليدة التربة الخصبة، ورويت بنهري دجلة والفرات. بالإضافة إلى هذا، العديد من الحضارات التي أُقيمت في وسط آسيا والشرق الأوسط، استوطنت هي الأخرى المناطق ذات التربة الخصبة، والمياه الوفيرة. هناك سبب مهم لهذا السلوك المشترك.
يحتاج البشر إلى بنية تحتية معينة لكي يتمكنوا من إنشاء حضارتهم في منطقة ما، والعنصران الضروريان لتلك البنية التحتية هما التربة والمياه.
كل الحضارات التي أُسست من قبل، استغلت الأرض بطرق مختلفة، واختبرت أنواعًا متعددة من وسائل الري، واستخدمت المياه والتربة في بناء أعمالها الرائعة، وآثارها.
المستوى العظيم للفن والعلوم الذي تحقق باستغلال الحضارات القديمة للتربة، والقوة العظيمة التي حازوها نتيجة لذلك، إحدى المواضيع التي أشارت إليها آيات القرآن، إذ تقول إحدى الآيات القرآنية في هذا السياق:
“أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۚ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ ۖ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَٰكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ" (سورة الروم، آية 9).
جميع المباني والأعمال الفنية التي تُعد اليوم من العجائب السبعة للعالم، جاءت إلينا من الحضارات القديمة. البناء الموجود في بعضها يتم تبنيه كنموذج ويستنسخه المهندسون. هذه الخدمات التي تُمنح للحضارة من التربة تستمر إلى يومنا هذا على العديد من الأصعدة.
بما أنَّ التربة مادة عملية، نشأت صناعة كاملة بناءً عليها في يومنا هذا، إذ تُستخدم التربة كمادة خام في الأسمنت، والسيراميك، والزجاج، وصناعات البناء.
يمكن تحويل التربة تحت تأثير الحرارة، وبخلطها مع مواد أخرى، إلى مواد شديدة المقاومة. بالإضافة إلى هذا، أصبح للصناعات المبنية على التربة تأثير كبير على صناعات أخرى، لأنَّ المنتجات المصنعة في هذه القطاعات تُستخدم أيضًا في البناء، والطاقة، وصناعات السيارات.
يُنعم الله الرؤوف الرحيم على عباده بنعم لا تنتهي من خلال التربة، على مختلف الأصعدة، مما يجعلهم قادرين على البقاء، وتحسين، وتسهيل حياتهم اليومية.
الخلاصة: التربة هي أعجوبة الخلق
لو كانت الأرض مغطاة فقط بالماء، لما استطاع كائن العيش على سطحها. ولو كانت مكونة من الصخور والحجارة فقط، لما تمكنت الكائنات الحية من استغلالها بالشكل الذي يحدث اليوم، ولكانت المعيشة على السطح الصلب للصخور في غاية الإزعاج.
كنا سنعجز عن الاستفادة من التربة والمنتجات الصناعية التي نحصل عليها من التربة. لكن إلهنا الذي لا حدود لرحمته لم يخلق الأرض مغطاة بالكامل بالمياه، ولا مغطاة بالصخور الصلبة. وتُعد التربة مناسبة تمامًا للبشر، وكل أشكال الحياة للعيش فوقها، بسبب كل ما يتعلق ببنائها، وتركيبها، ونعومتها، ومكوناتها. إذ يصف الداعية الإسلامي سعيد النورسي كيف خُلقت التربة بالبناء الأكثر كمالًا كما يلي:
كان الخلق الأصلي للأرض كما يلي: تجمدت بعض المواد السائلة بالأمر الإلهي وأصبحت صخورًا. وبإذن إلهي أصبحت الصخور أرضًا. كلمة "أرض" في التسبيح تعني "تربة"، لأنَّ المادة السائلة كانت أكثر ليونة من أن تدعم أي شيء، والصخور كانت أكثر صلابة من أن يستفيد منها أحد. لهذا، بسط الله الحكيم الرحيم التربة فوق الصخور وجعلها موطنًا مناسبًا للكائنات الحية. (الكلمات، الكلمة العشرون، المحطة الأولى).
لا يوجد أدنى شك في أن الله، الذي خلق كل الأشياء دون أن تشوبها شائبة، يُرينا وجوده، وأدلة على خلقه الذي لا يُضاهيه خلق حتى في حفنة من التراب، في الوقت الذي يريده. وكما أخبرنا القرآن، يخلق الله الأشياء في أحسن تقويم:
“هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ ۖ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ ۚ يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ" (سورة الحشر، آية 24).