من المعلوم أن أوروبا قد سَعَت من بعدِ مأساة الطفل أيلان، إلى تحمّلِ جزءٍ من المسؤوليّات المتعلقة باللّاجئين. بيد أنّها قرّرت لاحقًا، أنّها غير راغبة بالفعل في تحمّل مثل هذه المسؤولية. في الواقع، لقد كان هذا هو السبب الرئيسي وراء زيارة المستشارة الألمانية ميركل إلى إسطنبول الأسبوع الماضي.
وبالرغم من أنّ ميركل قد حضَرت إلى إسطنبول لتحقيق مصلحة ألمانيا، بيد أنّها قد كانت إلى حدِّ ما، ممثلةً لأوروبا بأكملها. من أهمّ الاقتراحات التي نوقشت خلال الزيارة، كانت مدى إمكانيّة بقاء اللاجئين في تركيا، وإعادة أولئك الذين وصلوا بالفعل إلى أوروبا، كل منهم إلى البلد الذي جاء منه، وذلك من خلال (اتفاقيّة إعادة القبول) التي تمّ توقيعها. وبناءً على ذلك، يتمّ تقديم مساعدات مالية لتركيا تصل قيمتها إلى 3 مليار يورو، وإن كانت القيمة غير مؤكّدة بعد. أضف إلى ذلك، بعض الحقوق الخاصّة فيما يتعلق بعضوية الاتحاد الأوروبي، والتي كان من المفترض أن تحصل تركيا عليها منذ زمنٍ طويل. كان من أهمّ تلك الحقوق هو إعفاء المواطنين الأتراك من التأشيرة. كما تضمّنت اتفاقيّة إعادة القبول، السماح لتركيا بالدخول في اتفاقيّة دول الشنجن مع حلول شهر يوليو من العام المقبل. من جانبها، لمّحت تركيا بعدم الالتزام باتفاقية إعادة القبول إذا لم يتم الوفاء بوعد شنجن.
مع توقيع تركيا على اتفاقيّة إعادة القبول، سيتمّ استئناف المفاوضات التركية الأوروبية التي كانت قد توقفت توقفًا شبه تام لمدة سبع سنوات، وستأخذ تلك المفاوضات منحى جديدًا.
تشير السياسة الواقعيّة إلى منظومةٍ من السياسات والمبادئ القائمة على اعتباراتٍ عمليّة أكثر منها أخلاقية أو أيديولوجيّة. واليوم، جعلت هذه السياسة الواقعيّة المدعومة من السياسات الماديّة، والتي تدّعي بأنّ الحضارات لا تزداد قوّةً إلّا من خلال الصراع المستمرّ، وأنّ المصالح الوطنيّة هي أولى من أيّ شيء آخر، جعلت العديد من البلدان، شديدة الطمع والأنانيّة على مرّ الزمن.
لقد تمّ تصوير هذه المعاهدة المحتملة بين تركيا وأوروبا كـ(سياسة مربحة للطرفين) وكنجاحٍ للسياسة الواقعيّة. مع إعادة تركيا إلى طاولة المفاوضات مع أوروبا، تقوم ألمانيا بإعطاء دفعة لميركل في انتخابات عام 2017 المقبلة، إذ لم يعد على ألمانيا تحمّل عبء اللّاجئين بعد الآن. وبالرغم من أنّ هناك الكثير من الألمان الخيّرين والمحسنين، إلّا أنّ الواقع يشير إلى رفض 53% من الألمان لللاجئين1.
وعلى الرغم من أنّ الأمر يُعدٌّ نجاحًا في صالح ألمانيا، لكن علينا ألّا ننسى أمر أولئك الّذين فقدوا كل ما يملكون، هربًا من الحرب. حين تعقد بعض الدول صفقاتها على حساب كفاح المضطهدين الّذين اضطروا إلى الفرار من بلادهم، وتتخذ موقف (إنّني لا أريدهم، فلتحتفظ أنت بهم)، حينها علينا أن نتساءل بحق، ألم يعلّم أيلان العالمَ درسًا في الإنسانية البتّة؟
بالطبع، هناك جوانبَ إيجابية لهذه الاتفاقيّة. أوّلها، هو الحدّ من عبور البحار غير الشرعي لأوروبا، وهو ما سيساعد في منع حدوث وفيّات جديدة مثل أيلان. علاوة على ذلك، ستضمن الاتّفاقية بأنّ البلاد التي ستتمّ إعادة اللاجئين إليها، هي أماكن آمنة، تضمن حقوق اللاجئين في العيش في بيئةٍ ديمقراطية، وتضمن لهم معايير الحياة الكريمة. بالنسبة لتركيا، فقد قبلت بالفعل 2,5 مليون لاجئ بلا أدنى تردّد، وعلّمت العالم بأسره درسًا لا ينسى في هذا الصدد. على أيّ حال، فقد فوجئت تركيا بالتدفّق المفاجئ للاجئين. أمّا ما أردناه وما توقّعناهُ دومًا، فهو التغلب على المشاكل، وتوفير الموارد والحقوق اللّازمة للاجئين الذين يستحقون ذلك بجدارة، وذلك بدعمٍ من الاتحاد الأوروبي.
في الواقع، فإنّ قضيّة اللّاجئين، علاوةً على كونها مسألةً إنسانية، فقد أظهرت حقيقتين هامّتين لتركيا وأوروبا:
الأولى هي أنّ أوروبا وعلى الرغم من محاولاتها السابقة لدفع تركيا بعيدًا بكل ما أوتيت من قوّة، وذلك غالبًا لكونها بلدًا مسلمًا، إلًا أنّ عليها أن تتذكر كذلك، أنّ تركيا بلدٌ أوروبيٌّ أيضًا. إنّ الاتّحاد الأوروبي في حاجةٍ ماسّة إلى دولةٍ ديموقراطيةٍ أوروبيةٍ مسلمةٍ عند مدخل منطقة الشرق الأوسط. لقد أثبت التاريخُ أهميّة تركيا مرارًا وتكرارًا، كما أظهر أهميّتها أكثر من مرة خلال الأزمة السوريّة.
والثانية هي إبراز أهميّة ماتقوم به تركيا من تطوير عقليّةٍ تناصر وتؤيّد الديمقراطيّة، والحريّات، وحقوق المرأة، والفنّ والجودة، إذا كانت بحقّ دولةً أوروبيّة. كما عليها أن تؤسّس لجميع سياساتها وأولويّاتها بناءً على تلك العقليّة، وألا تفسح المجال للعقليّة الرّاديكاية التي ترغب في الاستفادة من عدالة وحريّة أوروبا، بينما تعارض بشدّة جميع مبادئها وقيَمها.
إنّ العالمَ مستمرٌ في التغيّر. لذا نأمل في العصر الجديد، أن يجد الضيف السوري المزيد من السلام في بلادنا، حين لا يكون هناك المزيد من الغرق في أعالي البحار، وحين تتحسّن الديمقراطية وحقوق الإنسان كثيرًا في تركيا. لم ينسَ التاريخُ يومًا أولئك الذين رحّبوا بالمضطهدين المظلومين واحتضنوهم، ولن ينسى ذلك أبدًا.
1. http://www.theguardian.com/commentisfree/2015/sep/06/refugee-crisis-germany-response-heartwarming-will-pressures-show