أعزائي المُشاهدين، هذا المساء نتحدّث إليكم من جامع مولاّ جلبي الذي كان السّيد عدنان أوقطار يُصلي فيه ويعقد جلسات مع أصدقائه في السّنوات التي درس فيها في جامعة المعمار سنان.
في البداية أوَدّ أن أقدّم معلوماتٍ تاريخيّةً تتعلّق بالجامع، ثم بعد ذلك نتحدّث عن المناظرات العلميّة التي وَردت في كلام بديع الزّمان النّورسي، والتي تتعلق بفلسفة المادّيين الطّبيعيّين، بمعنى الدّاروينية والمادّية.
جامع مولاّ جلبي جامع صغير يقعُ في شارع مجلس المبعوثان والذي يوجد في منطقة فندقلي باسطنبول. وهو معروف بين الناس كذلك بجامع فندقلي. وقد تمّ تشييده من قبل المُهندس المعمار سنان بأمر من القاضي مولاّ محمد جلبي عام 1589 م، وهو من جهة البحر، وبجانب جامعة المعمار سنان تمامًا.
قبته مغلّفة بالرّصاص، وهو جامع منارته ذات شرفةٍ واحدةٍ، وهو مُقام على مساحة قدرُها 440 مترا مربّعا تشمل حديقةً وساحةً.
شُيّدت قبته بشكل سُداسي، والقبة الرّئيسيّة مقامة على أربعة أعمدة، و توجد حولها خمسة من أنصافِ القباب. وتلتقي أنصاف القباب هذه عند الزّوايا، وتلتصق ببعضها البعض، والجامع محاطٌ بجدار، أمّا الأعمدة التي تسند القبّة فهي مدفونة في الجدران.
وعند زوايا البناء تُوجد كذلك مجموعةٌ من الأعمدة، بكلّ عمود أربع زوايا، منارتُه حادّة وذات شرفة واحدة. وفي وسطه تُوجد قبّة كبيرةٌ بها عشر نوافذ، ومن جهة اليمين زوجان من أنصافِ القِباب، وكذلك من جهة اليسار، ونصف قبّة خامسة في ناحية المحراب. وبالإضافة إلى أنصاف القباب تضئ الجامع 34 نافذة.
شهد هذا الجامع على مرّ الزّمان عددًا من الحرائق، وأُجريت له جملةٌ من التّرميمات. ففي الحريق الذي نشب في يني كوي عام 1627 تعرّض لخسائر، ثم تم ترميمه بعد ذلك. ومن المعروف أنّه تعرّض لحريق آخر عام 1723- 1724م.
وحدثت خسائر في مبنى الحمّام. وفي عام 1822نشب حريق طُوبخانه الكبير، وتعرّض الجامع لخسائر فادحة، ويُعقد أنّه تعرض لحريق آخر عام 1843م.
وفي عام 1954 أصيبت جدران الجامع بالتّصدّع. وفي عام 1957-1958م وأثناء إنشاء طريق بهذا المكان تم إزالة الحمام وبيت الصّلاة. واليوم تمّ إنشاء بيت للصّلاة، وترميم الجامع. وأثناء عمليّات التّرميم هذه تم إحياء وظيفة شؤون القلم. وفي عام 2001 تم تجديد الرّصاص الذي يغلّف القبّة وترميم منارتِه. وتتكوّن كلّية الجامع من؛ جامع وحمّام ومكتب للصّبيان. وبعد إزالة مكتب الصّبيان تمّ إنشاء مساحة خضراء، وحسب ماهو مُسجّل من الكتابة الموجودة فيه فإنّ تاريخ إنشائه هو عام 1561م.
وفي عام 1787بنى قوجه مصطفى باشا بجانبه سبيلين وحنفية وواجهة جميلة على شكل نصف دائرة، ويوجد قبر مولاّ جلبي بالقرب من قبر أبي أيّوب الأنصاري.
أعزّائي المُشاهدين، لقد تحدّث بديع الزمان في مواضِع كثيرةٍ من مؤلفاته عن المهام الثلاث التي سيقوم بها المهدي عليه السّلام. وقد أوضح بديع الزّمان أنّ من أبرز علامات المهدي عليه السلام القيام بواحدة من هذه الوظائف الثلاث. وأولى هذه الوظائف مُكافحة الفلسفات المادية والدّارونية والإلحادية فكريّا, ودحضها دحضًا كاملاً بواسطة الحجج العقليّة.
سوف يكونُ المهديّ عليه السّلام سببًا في انتشار الإسلام في أصقاع الأرض كلّها، وهيمنة أخلاق الإسلام في كلّ مكان. وأوّل مرحلة في صراع المهديّ عليه السّلام الفكري هي خلخلة أسس الفكر المادّي والإلحاديّ والدّاروينيّ وإبطالها بواسطة دلائل الخلق.
ومن خصائص الفترة التي يظهر فيها المهدي عليه السّلام في آخر الزّمان انتشار التّيّارات والأفكار الإلحادية اللاّدينيّة والماديّة التي تُنكر وجود الله تعالى. ولهذ ا السّبب يكون أكثر النّاس بعيدين تمامًا عن الأخلاق الدّينية. كما أن بديع الزّمان النّورسي بيّن أنّ من أكبر المخاطر التي تميّز آخر الزّمان ظهور الفلسفات الإاحاديّة، وبالأخص تشكّل الفلسفات الدّاروينيّة والمادية التي تمثل الأساس الصّلب للإتحاد.
"هناك تيارٌ يُنكر الله تعالى متولّدٌ من الفلسفات الطبيعية والمادّية (الدّارونية، المادّية والإلحادية) ومع مرور الوقت، ومع اقتراب آخر الزمان، تكتسب انتشارًا متزايدًا، وتكسب قوّة بارزةً بواسطة الفلسفة المادّية، وتصل إلى درجة إنكار الألوهيّة.
ولهذا السبب بيّن بديع الزمان أنّ المُهمة الأولى للمهدي عليه السّلام هي مقاومة الفكر المادّي، بمعنى مقاومة الفكر الدّاروينيّ الذي تأسّس على فكرة إنكار وجود الله تعالى، ثمّ العمل على إبطاله وإزالة تأثيره على الإنسان: وله كذلك ثلاث مهام كبرى: الوظيفة الأولى: هي إنقاذ الإيمان وإسكات الفكر المادّي والفلسفة الطبيعية، وتخليص الإنسان من سيطرة العلم والفلسفة القائمين على فكرة إنكار وجود الله، هذا الفكر الذي غزا كثيرًا من النّاس وتسلل إلى عقولهم. وتتمثّل هذه الوظيفة كذلك في إنقاذ أهل الإيمان من الضّلال. مهمّة المهدي عليه السلام الأولى هي إثبات بطلان الداروينية، وشرح خلق الله، والسّير على خطى الأنبياء من قبل. ومُوسى عليه السّلام أثبت فساد نظرية التّطور، وقدّم الدّلائل على أنّ الموجودات من خلق الله عزّ وجلّ.
ومثلما هو معروف فإنّ أسطورة التّطور دينٌ باطل ترجع أصوله إلى العصر السّومري، وفي مصر القديمة كانت أكذوبة التطوّر عقيدة منتشرة. وكان فرعون وأتباعه يُؤمنون إيمانًا بدائيّا بالدّاروينيّة التي نعرفها اليوم. وكانوا يدافعون عن هذه العقيدة الفاسدة، وعند الاطّلاع على تاريخ الأديان في مصر نلاحظ هذه الحقيقة بوضوح.
وحسب عقائد المصريَين القديمة الباطلة فإن "الثعبان والضفدعة والعلق والفئران تتكوّن من الوحل بعد أن يفيض نهر النّيل"، بمعنى أنها مزاعم الدّاروينيّة نفسها التي تقول " إنّ الكائنات الحية تتكون نتيجة للمُصادفات ". وهذه عقيدة كانت كذلك سائدة في مصر القديمة.
ولهذا السّبب فإنّ مُوسى عليه السّلام توجّه في بداية دعوته نحو القضاء على هذه العقائد الفاسدة، وأبطل فكر التّطور عند الكائنات الحية. وعندما ذهب موسى عليه السّلام إلى فرعون لدعوته قابله بالسؤال نفسه وبالمنطق نفسه الذي نسمعه اليوم من الدّاروينيّين فقال له "ما بال القرون الأولى" (سورة طه، 51). فردّ عليه موسى عليه السّلام بإلهام من الله تعالى بقوله"عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لاَ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَشْقَى" (سورة طه، 52). ثم قدّم له الدّلائل والبَراهين على الخَلق.
جاء في القرآن الكريم أنّه عندما ألقى موسى عليه السّلام العصا على الأرض انقلبت هذه العصا بقدرة الله وأصبحت حيّة تسعى؛ كانت قطعة من الخشب لا رُوح فيها، ثمّ أصبحت حيّة تتحرّك بعد ذلك. ثم عندما أخذها بيده رجعتْ إلى حالتها الأولى عصًا لا حياة ولا حراك فيها، ثمّ ألقاها مرّة أخرى فعادت حيّة تسعَى. بمعنى أنّ المادّة غير الحية تُبعث فيها الحياة ثم تموت، ثم تحيا مرّة أخرى وهكذا. والله بهذه المعجزة يبيّن للنّاس باستمرار مسألة الخلق. يقول الله في آياته الكريمة : " فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى، قَالَ خُذْهَا وَلاَ تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأُولَى" (سُورة طه، 20- 21).
عندما ألقى موسى عليه السّلام العصا على الأرض تحوّلت بقدرة الله تعالى من قطعة خشبيّة ميّتة إلى حيّة تسعى وتتحرّك. ولمّا ألقى سحرة فرعون عصيّهم تلقّفتها حيّة موسى عليه السّلام وابتلعها. وهكذا تأكد للنّاس يقينًا أنّ هذه الحيّة حيّة حقيقيّة.
إنّ الابتلاع يثبتُ أنّ هذه الحية فيها روح، ولديها معدة وتتغذى، ونتيجة لذلك فهذا دليل قاطع أنها كائن حي يعيش. ثم بعد ذلك رأوا كيف أن الحيّة تهرب وتفرّ، وهذا دليل يؤكّد أنّها حيّة متحرّكة وذات روح.
وهكذا فهم النّاس هناك كيف يكون الخلق، بل إنّ رجال فرعون ومساعديه عندما عاينُوا بأنفسهم قدرة الله تعالى على الخلق خرّوا ساجدين، وآمنوا بوجود الله على الفور.
هذه الطريقة في الدعوة التي استخدمها موسى عليه السّلام كشفت للنّاس بالدّليل كيف يخلق الله الأحياء من العدم، وهذا لا يكون إلاّ بإذن الله إذ يقول للشّي "كُنْ" فيكون.
لقد أكرم الله تعالى موسى عليه السّلام بهذه المعجزة، وقد تمكّن موسى بما آتاه الله من كرامة من القضاء على العقائد الباطلة المتعلقة بالخلق لدى المصريين القدامى. وبهذه الطريقة في الدّعوة أدرك النّاس الحقيقة، وتخلّوا على الفور عن العقائد الباطلة.
هذه الطريقة في الدّعوة لدى موسى عليه السّلام وُجد ما يشبهها كذلك لدى عيسى عليه السلام. فقد قامت دعوته على الكفاح ضدّ الأفكار والعقائد المنحرفة والتخريف الذي طال الدّين الذي جاء به موسى عليه السلام، فبين للناس الحقّ والحقيقة، لكنه يستهل دعوته كذلك بإثبات مسألة الخلق.
لقد أخبر الله تعالى في القرآن أن عيسى عليه السّلام " يخلُق للنّاس من الطّين كهيئة الطّير ثمّ ينفُخ فيه فيكون طيرًا بإذن الله"
" إِذْ قَالَ الله يَا عِيسى ابْنَ مَرْيَمَ أُذْكُرْ نِعْمَتي عَليكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ القُدُس تُكَلّمُ النَّاسَ فِي المَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَالتَّورَاةَ وَالإنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطَّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بإذني" (سورة المائدة، 110).
فهذا الطّير، وبدُون أيّ سبب تُبعث فيه الرّوح بإذن الله وبمعجزة منه سبحانه؛ مادّة جامدةٌ تصبح حيّة تتحرّك، تُصبح طيرًا حقيقيًّا. وهذا دليل على قدرة الله على الخلق من دون سابق مثال ولا سبب.
أوَل ما فعله عيسى عليه السلام أنه أثبت حقيقة الخلق، وأكّد أنّ الله خلق كلّ شيء من العدم. بكرم من الله وفضل عرض عيسى عليه السلام عن طريق هذه المعجزة بُطلان الأفكار القائمة على فكرة التّطوّر وكشف عن لا منطقيّتها.
هذه الطريقة التي اِتّبعها موسى وعيسى عليهما السّلام في الدّعوة تفيد بأنّ البداية تكون "بإثبات الخلق" والمهدي عليه السّلام كذلك عندما يَنطلق في دعوته سوف يتّبع المنهج نفسَه في الإرشاد إلى طريق الله تَعالى.
عند ظهور المهدي عليه السلام سوف تكون أولى مهمّاته بيان بُطلان الدّاروينية وإثبات الخلق، ومثلما أخبر بديع الزّمان سعيد النّورسي فإنّ المهدي عليه السّلام سوف "يُسكت تمامًا " الدّاروينيّة والمادّية، بمعنى يدحضها بشكل كامل بواسطة البراهين العلميّة. سوف تكون المهمّة الأولى للمهدي عليه السّلام "القضاء على الدّاروينيّة والمادّية قضاءً مُبرما في العالم كلّه". وعندما تنهار المادّية والمذاهب الإلحاديّة والدّاروينيّة فإنّ المهدي بذلك يكون سببًا في إنقاذ إيمان البشريّة.